Tuesday, December 30, 2008

بيان شجب ودعوة ومناصرة

إزاء ما يحدث بغزة الفلسطينية
من جرائم وحشية ضد الإنسانية يمارسها المتصارعون بأسلحة القهر المادى والثقافى على حساب المدنيين
فان ياسر العدل
يشجب بكل قوة ممارسات العدوان الإسرائيلى على الشعب الفلسطينى
كما يشجب بكل قوة ممارسات التخلف الحضارى والضعف السياسى
تمارسها القيادات العربية فى مواجهة هذه الجرائم
ويدعو كل القوى الفاعلة فى العالم إلى ممارسة دورها من اجل وقف هذه الجرائم
ويناصر الجهود الرامية إلى تحقيق السلام المبنى على العدل والمساواة بين البشر
ويناصر كل الطرق المؤدية للحفاظ على الحقوق الأساسية للإنسان المعاصر
توقيع د. ياسر العدل

Sunday, December 28, 2008

حقنة شفافية

مثل موظف غلبان فى حكومة غير رشيدة، جلست مع بعض الزملاء نمارس متعة النميمة واغتياب بعض قياداتنا، عينتهم القيادات الأعلى فى مناصبهم دون اختيارنا، إمكاناتهم مثل إمكاناتنا، أجسادهم مثل أجسادنا، مرتباتهم الرسمية مثل مرتباتنا، ومع ذلك يهبرون أموالا كثيرة بتخريجات قانونية وغير قانونية تضاعف من دخولهم، هكذا ارتفع مستوى النميمة فى جلستنا تجهيزا لمتعة التآمر.

تكاثرت أقاويل القيادات والحكومة والجيران عن الشفافية، فحملت فى صدرى طموحات أطرق بها المكتب الفخيم لمديرنا الكبير، قاصدا أن أكون رئيسا كبيرا أو على الأقل نصف رئيس.
اليوم المناسب للتعامل مع العظماء، قابلت مديرنا الكبير وحين انفرجت أساريره عن ابتسامة مدير كبير، سررت فى أذنه أقاويل غيرى من الموظفين الحاسدين المتآمرين، بأن قياداتنا الأعلى تهبر أموالا كثيرة تجاوز الآلاف من الجنيهات سنويا، يحصلون بسيف السلطة أو عصا الحياء على موافقات قانونية تصدرها مجالس إدارة خاصة، تدير صناديق خاصة وتتحكم فى بنود خاصة، ولا يرصد هذه الأموال إلا حاسد أو متآمر.

بحكمة بالغة وبصوت واثق أقسم مديرنا الكبير بالعيش والملح، أن حكومتنا تعمل كل شيء بكل شفافية، وان قياداتنا تبذل فى سبيل الوطن كثيرا من جهودها التطوعية، لا تريد جزاء ولا شكورا، وأن مرتبات الكبار لا تزيد عن مرتبات الصغار إلا جنيهات معدودة تنفق على الشاى والقهوة لاستقبال الضيوف وعابرى السبيل.
كان على أن انتشى كموظف كبير يمارس الشفافية مع المدير الكبير، فهتفت له بطول العمر مديرا وحكيما، وحين أعلنت رغبتى فى أن يطول عمرى سنوات للعمل تحت قيادته، نطبق الشفافية وننزع الفساد من الأرض دون مقابل، باغتنى برغبته السامية فى إنهاء اللقاء.

فى مساء نفس اليوم، رقدت فى السرير محموما، أعانى من فشل الحصول على منصب قيادى، أرغى بكلمات وانثرها فى وجه زوجتى، الشفافية يا أختى، تعنى وضوح القانون لمن يطبق بينهم، تعنى إعلاما موضوعيا يصنع تحضرا فى الرأى العام، تعنى سلامة المنطق فى بناء الفكر، تعنى ثقافة الانتماء لمصالح الأغلبية.
عند تلك الوصلة من الشفافية، وترويجا لطرق الحكومة فى علاج حمى صغار الموظفين، كانت زوجتى قد أعدت الماء والصابون والحقنة الشرجية.

المقال نشر فى جريدة العربى الناصرى - الأحد 28 ديسمبر 2008م

Tuesday, December 23, 2008

لازم نشوف مصر

مصر بلد كبيرة، مساحتها مليون كيلومتر مربع، يسكنها أكثر من خمسة وسبعين مليون إنسان، تاريخها الطويل جعلها مليئة بالقيم والأصول وأرضها مليئة بالخيرات، هكذا أصبحت مصر بلد تاريخ وجغرافية، ومع ذلك فكثير من المصريين لم يشوفوا مصر، ليس بسبب الفقر الاقتصادى بل بسبب غياب الوعى الثقافى بأهمية الرحلات.

منذ سنوات، أكثر من خمسة وثلاثين عاما، قمت بزيارة كثير من أرجاء مصر فى رحلات شبابية قليلة التكاليف على طريقة الأتوستوب، المواصلات مجانا ومعظم الطعام والمبيت مجانا، احمل حقيبة ظهرية بسيطة ومعى ورقة رسمية من نادى شباب انتمى إليه تطلب ممن يهمه الأمر تسهيل رحلاتى، على بداية الطريق أقف عند نقط المرور، عادة ما ينجح رجال المرور فى التوسط لدى سائقى السيارات ويحملونى معهم مجانا لمسافات على الطريق، وعند أول تجمع سكانى أحاول الاتصال برواد مركز الشباب فى هذا التجمع، انزل ضيفا عليهم واحكى لهم عن رحلاتى، كانت الناس فى زمان رحلاتى يعالجون دواعى الأمن ويتناولون أزماتنا الاجتماعية والثقافية بطرق تختلف عن زماننا الحاضر.

بعد سنوات من رحلاتى الفردية، قامت جماعات دينية برحلات جماعية تحمل نفس الأسلوب مع اختلاف النوايا بينى وبينهم، هم يحصرون همومهم فى أنشطة يزدادوا بها انعزالا عن الوطن، وأنا مشغول باكتشاف حبائل التواصل مع كل الوطن.

نحن الآن فى أوضاع ثقافية واجتماعية واقتصادية يؤدى تفاقمها إلى تحلل الانتماء القومى لدى كثير من المصرين، ولأن الرحلات الجماعية البسيطة والمنظمة يقوم بها الإنسان داخل وطن هى جزء من أدوات بعث الانتماء لهذا الوطن، لذلك فنحن بحاجة إلى مشروع قومى يناصر فكرة قيام جموع من المصريين برحلات شعبية قليلة التكاليف، هدفها أن يلمس المصرى أرجاء مصر بجسده، ويشوف واقعها بروحه، ويفكر فى مستقبلها بعقله، هكذا ندق أبواب التحضر بآليات ثقافية واقتصادية واجتماعية نقوى بها انتماءنا الوطنى، فنحيا أكثر حبا لأرضنا وأكثر حبا لتاريخنا وأكثر حبا لأهلنا، وأكثر رغبة فى بناء مصرنا العظيمة.

تنفيذ هذا المشروع يحتاج لجهود واعية من مصريين، أفرادا ومؤسسات، يتجاوزون بفكرهم رحلات قطار الشباب ورحلات الجماعات الدينية ورحلات الأسر الطلابية، رحلات عمال التراحيل هى الأقرب، يحبون الرحلات ويحبون العمل الجماعى، يعملون تحت شعار "لكى نحب مصر لازم نشوف مصر".

Sunday, December 21, 2008

حلم بالمحبة

لأننى موظف لدى حكومتنا الرشيدة، أقف صابرا فى طوابير العيش والتعليم والصحة والمياه والكهرباء والترقيات والميراث والانتخابات، ألهج بالدعاء طالبا الصحة وطول العمر لرؤسائى، أبذل جهدى فى تدليل زوجاتهم وأولادهم وأقاربهم وكلابهم وصغار الحمير، وحين طال انتظارى سنوات دون تحقيق شيء من العدل أو الكرامة، داعبت نفسى بحلم التمرد على رئيسى فى العمل، انه الأقرب لأصابعى وأول جزء تناله يدى من جسد الحكومة.

رئيسى فى العمل الحكومى، يأكل قليلا من عرق يده، ويحضر كثيرا من موائد الطعام على أرصفة الأشهر الحرم وفى احتفالات الحكومة، فى السر يفضح رأيه الشخصى كرها فى الحكومة وفعل الحكومة، وفى العلن يقدس رأى الحكومة بأن الأمور رائعة، يتدرب كل يوم على قبول الإهانة من الرؤساء ليصبح خبيرا فى إهانة المرؤوسين، لا يدخلنى فى تجربة الديمقراطية، ويصادر رغبتى فى الغناء، هكذا صرت أغنى منفردا فى الشوارع والبيوت وبين المحبطين، أنا أكرهك يا رئيسى العزيز.

ذات يوم قريب حلمت بموقف ديمقراطى، أن رئيسنا فى العمل ترك الوظيفة وهجر صحبة الحكومة ووزع علينا ثروته وبعض ما ملكت يمينه، فأصابتنى نوبة من الشجاعة وملأت أذن احد زملائى وكاتم أسرارى بوقائع الحلم قاصدا نشره بين الجميع، وحين تفشى الخبر وذاع وعم القرى والحضر، هاص الناس وأعلنوا حبهم للحرية.

فى بداية اليوم الثالث من صب الحلم فى أذن زميلى، دخلت مبنى الحكومة منتشيا أوزع ابتسامات حلمنا على الجميع، دخلت مكتبى فوجدته محطما بفعل فاعل، الكرسى مقلوب والأوراق مبعثرة، وحين وجدت صورة رئيسنا المباشر مهشمة على الأرض وصلتنى رسالة الأمر، كان زميلى وكاتم أسرارى قد ثار وفعلها، حمل عصا خشبية ليكسرها فوق دماغى فى مكتب الحكومة، ذلك أن أحدهم وشى بنا عند رئيسنا، فأهدر رئيسنا لزميلى وسب أهله واتهمه بالتواطؤ، وهدده بالعنة وتساقط الأطراف، كيف لموظف أن يصغى لحلم موظف آخر؟ إنما الأحلام صناعة موظفين متواطئين.

هكذا أصابنى رعب الجلوس وحيدا فى مكاتب حكومتنا الرشيدة، بعد أن تكاثر عدد من يتربصون بى الدوائر ويهددهم رئيسنا بالعنة وتساقط الأطراف ونقص فى الأرزاق، ولا منقذ لى غير التوقف عن حلم التغيير مع تدريب النفس على الحلم بمحبة رؤسائنا جميعا.

Monday, December 15, 2008

النفاق لا يحصد حرية

الحرية باعتبارها قدرة على إبداء الرأى مع الدفاع عنه، ليست مطلبا أصيلا عند المنافقين من أساتذة الجامعة، إنهم يعلنون غير ما يسرون ويفعلون غير ما يقولون، يبدون حماما يحاول البوح لكنهم يتطايرون عند أول ازدحام للدبابير.
عرض قرار إدارى على أحد مجالسنا الإدارية بالجامعة، القرار غير عادل يلبى حاجة ابن يملك قدرات عادية ويستغل قدرات أبيه غير العادية، باعتبار الأب يشغل منصبا كبيرا فى الجامعة، وعند التصويت وافق على القرار كثير من الأشرار ورفضه بعض الطيبين، هكذا شاركت فى محرقة تشعل الأرض فوق رأس زميلنا غير العادى وتميدها تحت قدمى ابنه العادى.
التقيت بزميل يعترض سرا على القرار ويشجعنى على طرح الاعتراضات فى كل الصحف، وحين سألته بعض المعلومات أسر فى أذنى بأنه لا يسعى للفضائح وأنى قادر على فعل ذلك وحدى، زميل ثان مشغول بأبحاث الترقية نصحنى بأن أفيق لمصالحى وابتعد عن الموضوع بدورة تدريبية هنا أو سفر هناك، واخبرنى زميل ثالث يحلب لبن الجامعة لصالح أولاده بأن زميلى الأول منافق أعطى صوته علنا لصالح القرار، واخبرنى زميل آخر بأن كل مجالس إدارات الجامعات توقع بالموافقة على قرارات أصحاب السيف والسلطان، هكذا وجدتنى أمام غالبية من أساتذة جامعاتنا، يتصنعون الطيبة ويرون أن واقعنا غير صالح للتغيير، ذلك أن زماننا متورم بقوة أشرار يحتكرون تشريع وتنفيذ ومراقبة كل القرارات.
إن حسن نوايا الطيبين لا يكفى لتحقيق الحرية طالما أن أقوال الطيبين لا تتسق مع أفعالهم، وواقعنا الجامعى يمتلئ بكثير من أساتذة جامعات يسرون برأيهم فى أذن الأماكن المغلقة ويعلنون رأيا آخر تسجله المحاضر الرسمية، فكيف لهؤلاء أن يسعوا نحو الحرية ويطالبوا بالديمقراطية؟.
النظام السائد فى المجتمع حاسم فى صناعة الحرية، الطيبون الأحرار يعيشون فى مجتمعات قوية صلبة تضم مؤسسات تحكمها قوانين عادلة تفصل بوضوح بين السلطات وبين المسئوليات، والعبيد الأشرار يعيشون فى مجتمعات ضعيفة رخوة، يفقد الناس فيها معايير القيم ويتخبطون فى دوائر متقاطعة من مصالح الأشرار على حساب قيم الخير والعدالة.
أسباب تخلفنا الحضارى كثيرة، من بينها أن كثيرا من أساتذة جامعاتنا يحملون صفات البشر فى المجتمعات الرخوة، ولا يتغيرون.

Monday, December 08, 2008

قيادات . . بالمراسلة


إعارات أعضاء هيئة التدريس بالجامعات للعمل خارج جامعاتهم يمكن تصنيفها إلى ثلاث مجموعات، مهام علمية لصالح الفرد والمجتمع والجامعة تضمها البعثات العلمية، ومهام سيادية لصالح الفرد والمجتمع تضمها إعارات قانونية نصا وروحا، وأخيرا مهام شخصية تضمها كثير من إعارات ارتزاق تضمها وقائع تدليس وتزوير لصالح الفرد فقط.

مهام البعثات العلمية تتطلب من المعار السفر إلى بلاد الغربة بحثا عن جديد العلوم والمعارف والعودة بشهادات علمية واكتساب مهارات معرفيه يمكن قياسها، فى هذه المهام يتحمل المجتمع تكاليف البعثة ويتحمل المبعوث مشاق الاغتراب0

مهام الاعارات السيادية مثل إعارات الملحقين الثقافيين والتبادل العلمى، فيها يستوفى عضو هيئة التدريس بالجامعة قيامه بالعمل فترات على أرض الوطن، أقلها ثلاث سنوات لمن يحصل حديثا على الدكتوراه، وبناء على شرعية العقد الاجتماعى بين الفرد والمجتمع يحق لعضو هيئة التدريس المعار قانونيا أن يتقدم بأبحاثه العلمية للترقية ويساعده المجتمع على ترقى مناصب السلطة وتحمل المسئولية فى جامعته الأصلية0
تبقى مهام إعارات الارتزاق واكل العيش داخل وخارج الجامعات، هذه الإعارات غالبا ما تعود بكثير من الكسب المادى لصالح المعار وتعود على جامعته بالخسارة العلمية والمادية والأخلاقية، وفيها يستوفى المعار شكل القوانين دون أن يستكمل ما يسعى إليه المشرع من الحفاظ على الأخلاق والعرفان بالجميل بين الفرد والمجتمع، فمثلا زوجة لا تعمل أصلا فى الداخل ولا تعمل فعلا فى الخارج ومع ذلك يتم تزوير أوراق تتضمن عمل الزوجة مما يسمح لزوجها بالدوران حول القوانين ويسافر مرافقا لزوجته ليعمل هو خارج الجامعة، هكذا تحايل بعضهم وبمساعدة الإدارة الجامعية ليبقى خارج الجامعة فترات تجاوزت لدى بعضهم عشر سنوات كاملة، اكتفى فيها بدفع أموال قليلة للجامعة وضرائب تافهة للدولة وهدايا ثمينة لمن يهمهم أمر بقائه بعيدا، من مدلسين ومزورين ومنتفعين، وحين العودة يطالب بالترقية واعتلاء مناصب قيادية فى جامعاتنا.
على جامعاتنا المصرية أن تحسم رأيها القانونى والعلمى والثقافى فى أعضاء هيئة تدريس ينتمون لجماعات الارتزاق، فبعد سنوات من الغربة يتخلصون فيها من أعباء العمل اليومى بجامعاتهم الأصلية ويكتسبون وقائع ضعف علمى وأخلاقى وثقافى، هل تراهم صالحين لأن يشغلوا مناصب أرقى فى جامعاتهم الأصلية، وأن يقودوا تطور العملية التعليمية بجامعاتنا؟

Saturday, December 06, 2008

شٌرًابة الخُرج

من لا يسعى لتغيير مظاهر التخلف فى إدارة المجتمعات، فان دوره فى الحياة لا يتجاوز دور شٌرًابة الخرج، كل ما يفعله هو الاهتزاز الجميل على برادع الحمير، لا أرضا قطع بالفهم ولا ظهرا أبقى للتغيير.

بعض مظاهر التخلف فى بلادنا أن كثيرا من قياداتنا الكبيرة والوسيطة تسعى لتثبيت ربطات عنق قاصدة إخفاء حناجرها المجروحة بالنفاق لكل رئيس، وتتحسس صلاحية رؤوسها الفارغة لارتداء طرابيش التزلف لكل قادر.

كان طربوش أبى هو الوعاء الأحمر الوحيد صاحب العزة فى بيتنا، يعلقه على مسمار خشبى مرشوق فى حائط حجرتنا الطينية، لا تناله أيادينا ونحن صغار، كانت صعوبات الطفولة تواجهنى فى جمع الخرز الملون وبكرات الخيط الفارغة، وأحلم طوال الوقت باستخدام الطربوش مخزنا يحفظ مقتنياتى بعيدا عن كل يد، كان طربوش أبى وعاء أحمر من الصوف ذو حافة جلدية بداخله خوصة من قشر الخيزران، يعامله أبى برفق وافتخار، يمسح زغب التراب على جسده الأحمر ويمشط خيوطه السوداء لتتدلى باتساق على جانب منه، وفى كل صباح يرفعه من زره بإصبعين ثم يضعه على رأسه، ويركب به الحمار ويروح بعيدا إلى الشغل، وفى أيام الهناء كثيرا ما أسقط أبى الطربوش فوق رأسى، فيسد أذنى ويطفئ النور فى عينى، وتصيبنى شهقة انتشاء من هوائه المضغوط دافعا البرودة نحو كتفى.

بعد سنوات أصبح حمارنا عجوزا لا يقاوم الانزلاق فى لبخة الطين بشوارع الشتاء، فوقع حمارنا أكثر من مرة، وداس على الطربوش فى كل مرة، وتعودنا أن ينسى أبى الطربوش على المسمار الخشبى، وبدأت أداعب أحلامى فى الطربوش، وحين طالته يداى أدخلت حبلا من خيوطه السوداء فى ثقوب ظهرت بجانبيه، وأصبح لدى وعاء أحمر أجره على الأرض بكرافتة قديمة جررت بها قططا صغيرة وكلاب، وحين مات أبى غسلت الطربوش وحفظته فى دولاب خشبى، هكذا صنعت لخرقة قديمة من صوف الجوخ تاريخا أقصه على أولادى.

تقدمنا الحضارى رهين بالتخلص من قيادات تمارس دور شُرًابة الخُرج، يعلقون احترام ذواتهم على الفصل بينهم وبين الجماهير، يمهدون الطريق لفساد القيم ويمارسون تخريب العقول، ينكسون رؤوسهم احتراما لطرابيش داستها حميرنا، ويربطون أعناقهم بكرافتات جررنا بها كثيرا من الكلاب.
المقال نشر فى جريدة العربى الناصرى - الأحد 7 ديسمبر 2008م

Thursday, December 04, 2008

الضعف فى تنفيذ القانون


فى حادثة انهيار مبنى جديد تم القبض على المهندس (فلفل) وتبين انه أدين فى قضايا تجارة عملة وحيازة سلاح ابيض واغتصاب مدير بنك، وفى هوجة اشتباه فى تجارة الممنوع تم القبض على الولد (عنتر) وتبين انه ماسح أحذية هارب من إحدى زوجتيه ويتفاوض على عقد عمل فى الخارج، وقضى الحاج (فلته) عشرين يوما فى الحبس حتى تم القبض على رجل تشتبه الشرطة فى انه القاتل الوحيد لحصان رجل عظيم.

فى بعض المواسم تتحرك أدوات الشرطة فى تطهير منطقة من الخارجين على القانون، تفتش الأرض والسقوف والمنازل والجيوب، ويتم القبض على العشرات من المشتبه فيهم، وحين تخبو طبول مواسم التطهير، تهدأ المعمعة ويسترخى المتعبون من رجال ضبط ومنتفعين ووشاه, يخرج المقبوض عليهم من محابس تحت السيطرة تمهيدا لإعادة القبض عليهم وقت الحاجة لتسوية جرائم لم تستدل الشرطة على مرتكبيها.

حين يتكرر قبض الشرطة على نفس المشتبه فيهم يحتار الجميع فى تفسير بقاء كثير من المجرمين أحرارا لا تنالهم يد القانون، ينشرون فى الأرض فسادا ويروعون الآمنين، يتعاملون مع الشرطة كأنهم أصدقاء قدامى، هكذا يصل إلى فهم البسطاء أن إغماض عين الشرطة على نشاط كثير من المجرمين والفاسدين ليس راجعا لطبيعة الجرم أو لتنوع أسباب الفساد، بل راجع لأن يد الشرطة تتحرك لتنفيذ حالات موسمية ترتبط بحالات الترقية أو بتنفيذ سياسات فردية محددة، ويبقى لدى الناس شعورا طاغيا بعدم الأمان، ويحاصرهم إحساس دفين بأنهم مشاريع جاهزة لحالات اشتباه محتملة من الشرطة، ذلك بأن إغماض العيون عن جرائم مشهودة إنما هو مساومة يمارسها مجرمون قاصدو الهروب من كل مسائلة.

كلنا يعيش ضعفه الإنسانى ويعرف جناة من كل نوع، يعاشر خارجين على القانون فى أكثر من نص، يخالط زوجات وأولاد وأقارب وموظفين وتجار وفنانين وطلاب علم وأساتذة جامعات وصحفيين، لكن الخوف القاتل كامن فى صدورنا من سطوة الجناة ونوم القانون وفساد بعض الذمم، هذا الخوف يجعلنا طوال الوقت صالحين لأن نكون جناة من نوع ما.

إن ضعفنا الإنسانى وتخلفنا الثقافى وتعثرنا السياسى فى تناول قضايا الحرية كلها أسباب تدفعنا لأن نعيش خوفا يجعلنا لعبا سهلة أمام عشوائية السلطة, نستدرج القوانين لتخدم مصالحنا فقط، نطرح أنفسنا صالحين للاستخدام فى مواسم توريد الجناة للقضايا الناقصة أو المحتملة، ونحاول جلب الأمن لأنفسنا بأنفسنا، فنتحسس العصى ونشحذ السكاكين قاصدين أن نهش أهل خوالبلطجة من حولنا وأن تلامس أيادينا عدالة تطبيق القانون.

لا سبيل أمامنا للهروب من دوائر الخوف الشخصى والجماعى غير الإمساك بأدوات الحرية، حرية الفكر بالديمقراطية، وحرية الإرادة بالوعى، وحرية الفعل بالعلم، نحن بحاجة إلى إدارة علمية تساعدنا على الفصل الحاسم بين عناصر اللعبة، بين الجناة باعتبارهم موضوع اتهام للشرطة وبين الشرطة باعتبارها أداة لتنفيذ أحكام القضاء وبين القضاء باعتباره أداة لكشف للعدالة، نحن بحاجة إلى إدارة علمية ترفع الوعى لدى الناس ليدركوا طبيعة حرياتهم، ترفع كفاءة الشرطة فى جمع المعلومات وتحليلها وإدارة نشاطاتها، ترفع درجة تطبيق نصوص القانون لتشمل الجميع، ترفع سرعة التقاضى وسرعة الحسم فى الأحكام، ترفع صلاحية السجون لحبس كل مخالف.

إن الطريق نحو رفع خوفنا من ظلم محتمل يطرح علينا كمصريين أسئلة محورية، كيف لنا أن نعرف واجباتنا ونطالب بحقوقنا؟، كيف لنا أن نتخلص من عشوائية السلوك الشرطى؟ كيف لنا أن نتجاوز ضعفنا فى تنفيذ القانون؟.
المقال نشر فى مجلة المصور - الجمعة 5 ديسمبر 2008م

Saturday, November 29, 2008

بحوثنا العلمية واللغات الأجنبية



يعانى غالبية طلاب الدراسات العليا وكثير من أساتذة جامعاتنا تدنى مستوى المعرفة بلغات العلم الحديث، سواء مع اللغة العربية باعتبارها لغة قومية تحمل وعائنا الثقافى أو مع اللغات الأجنبية باعتبارها أدوات بحوث علمية فى كثير من العلوم.

من المعروف أن اللغة الخاصة لأصحاب مهنه أو حرفة ما هى كائن حى له خلاياه الصغيرة من مفردات وكلمات ومعانى تربطها نظم بناء من قواعد وصرف ونحو, وتنمو اللغات الجزئية فى تصاعد وتطور بين أصحابها ليتولد من مجموعها لغة عامة للتواصل المعرفى بين فئات المجتمع الواحد، وفى النهاية تمثل مجموعة اللغات الخاصة حصيلة المجتمع من لغة عامة يتواصل بها حضاريا مع بقية المجتمعات.

إن تدريس اللغات الأجنبية فى جامعاتنا يعانى من وقائع تخلف كبير من نقص فى الإمكانيات وخبث فى النوايا، ومثال ذلك ما يحدث فى كليات التجارة التى يتخرج منها حوالى أربعين ألف طالب سنويا, الطلاب يحفظون بضع صفحات بالإنجليزية فى السنتين الدراسيتين الأولى والثانية فقط، ويقوم بالتدريس والتصحيح بعض المحالين إلى المعاش من التعليم التجارى، وتكون النتيجة أن غالبية الخريجين يجهلون الإنجليزية فضلا عن ضعفهم المقيت فى معرفة اللغة العربية، وهذا الواقع المر ينطبق على كثير من الأساتذة فى سلك التدريس بجامعاتنا.

الغالب الأعم بين طلاب الدراسات العليا فى جامعاتنا أنهم يتواصلون مع أساتذة ضعاف فى معرفتهم باللغات الأجنبية، وتنشأ بين الجميع بيئات صالحة للانحراف عن روح ونص القانون فى تسجيل ومنح الدرجات العلمية، الطلاب يهربون من التعامل مع الأبحاث باللغات الأجنبية والأساتذة يتكاسلون عن نشر أبحاثهم باللغات الأجنبية، هكذا يهرب الغالبية من إنتاج أبحاث جادة ينقصها معرفة اللغات الأجنبية باعتبارها وعاء حضاريا للعلم الحديث، وتتراكم فى جامعاتنا شهادات علمية نتداولها كأنها شهادات الماجستير والدكتوراة وهى لا تزيد عن كونها أوراقا عديمة القيمة عند محك الاختبار العلمى.

هكذا لوقف التخلف المعرفى باللغات الأجنبية بين طلاب العلم والباحثين فى بلادنا، تلزمنا آليات حديثة وعلمية لزيادة فاعلية جهات التدريب وعدالة تنفيذ القوانين البحثية على جميع الباحثين فى معرفة اللغات الأجنبية حتى ولو اقتصرت الأبحاث العلمية على علوم اللغة العربية أو علوم الدين الإسلامى.

Thursday, November 27, 2008

البحث عن أرباب للثقافة

تلقيت اليوم على بريدى الالكترونى خطابا فيما يلى نصه

From: ???-335@hotmail.com
السلام عليكم : Subject
To: yassadl@yahoo.com
Date: Thursday, November 27, 2008, 1:51 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم دكتور ياسر
أنا كنت أحد الطلاب الذين نالوا شرف التعلم على يديك، وأنا كنت من أشد المعجبين بكلامك وأسلوبك فى التفكير، اطلب من حضرتك كتابه موضوع يظهر وجهة نظرك فيما يحدث حولنا فى العالم مثل الأزمة المالية العالمية والكساد الاقتصادى المحتمل وتأثيره على مصر وعن إمكانيات مصر المتواضعة فى مواجهة تلك الأزمة وأرجو ألا يخلو موضوعك عن تصريحات المسئولين المطمئنة ظاهريا ولكنها تحمل فى طياتها كوارث وقنابل موقوتة ومواضيع أخرى أود أن تسردها بأسلوبك وهى القرصنة فى خليج عدن وحالة الشتات العربى والوضع فى السودان والأهم انحطاط الوزن والثقل المصرى على المستوى الدولى والمحلى، وأخيرا يا دكتور ياسر، عندما كنت أحد طلابك فى الفرقة الثانية بالجامعة كنت دائما أفخر أنى مصرى ولكن الآن وبعد أن تخرجت فى عام 2004م وسافرت للعمل فى احدى الدول النفطية وجدت ما لا يحمد عقباه وهو أن المصرى رخيص ولا ثمن له، فأنت تغفل أن نظره هؤلاء الخليجيين لمصر والمصريين ليست سوى نظره صاحب عمل لمجموعه من المرتزقة، فما الذى جعل الأمور تصل إلى هذا الوضع المتدنى؟
شكرا دكتور ياسر

=============

أمام هذا الخطاب رأيتنى فى مواجهة الاختيار بين ثلاثة من طرق التعامل، أولها : أن أرد على صاحبه بالشكر والمواساة باعتباره امتنانا شخصيا من أحد طلابى القدامى ، والثانى: أن أهمل الرد على الخطاب باعتباره خطابا ساذجا تصلنى عشرات مثله من بعض قرائى، والثالث: أن اعتبر الخطاب مجرد إشارة إلى موقف عام يعترى منهج تحصيل المعرفة لدى الأغلبية من شبابنا، هذا الموقف يحتاج منى لإبداء رأى عام، ووجدتنى اختار الطريق الثالث وكتبت ردا على صاحبى هو التالى:
==============

شكرا على اتصالكم.

أيها الصاحب، لماذا تصر على أن تبقى طفلا ساذجا؟ تبحث عمن يفكر لك ويفسر لك ويكتب نيابة عنك، لماذا لا تحاول بنفسك أن تجيب على الأسئلة الواردة فى خطابك؟، أن تجيب بطريقتك وبما تملك من أدوات تتميز أنت بها عن الآخرين، فأنت بالضرورة صاحب دور يفرضه عليك مجرد وجودك فى الحياة، لكن جهلك بإمكانياتك وعدم رغبتك فى رفع هذا الجهل يبقيانك بعيدا عن تعديل نفسك وإصلاح الآخرين.

يا صاحبى، حاول بنفسك أن تبذل جهدا عقليا وقلبيا للإجابة على أسئلتك وكثير من الأسئلة الوجودية المشابهة.
يا صاحبى، حاول أن تتعرف على العالم بنفسك فأنت عضو فاعل فيه، ولا تبقى حراكك ساكنا مثل معظم أترابك الغائطين فى ثقافة العرب المتخلفين، ينعمون بتخلفهم، ويمسكون دون جهد بمبررات غير علمية تضفى عليهم قناعة ورضى بما هم فيه من تخلف.

يا صاحبى، لا تفعل مثل غالبية الأهل فى بلادنا، يجلسون مكممى العقول يتبتلون أمام أصنام تقدسها سذاجتهم، يجلسون أمام الصحف والكمبيوتر والتلفزيون وشيخ الجامع وقسيس الكنيسة وكاهن المعبد وكاتب الأحجبة وبائع التعاويذ والبوق الحزبى والوزير والخفير ورئيس الدولة، يتسمرون فى بلاهة أمام أصنام بغير قداسة، لا يشقيهم حس إنسانى ولا يؤرقهم تخلف حضارى.
يا صاحبى، لا تجلس أمام أقداسنا كحيوان أعجم ، يلقون عليك كلاما ساكتا تملأ به دماغك الفارغ وتملا من دونه عقلك البدائى ببول الآخرين ونفاياتهم.
يا صاحبى، لا تكن عربيا ذليلا متخلفا تفيض على من حولك بؤسا وعبودية ولؤما وبكاء وأدعية بالنجاة من آلهة لا ترحم الجاهلين.
يا صاحبى، حاول أن تفكر بنفسك لتعلم بنفسك، وابحث لك عن أرباب حقيقية تعرف الثقافة وتقودك للتحضر.
أخوكم ياسر العدل

Sunday, November 23, 2008

علاج أهل الجامعة

نظام العمل فى جامعاتنا ينتج وقائع مأساوية تؤكد فسادنا العام وتضع أهل الجامعة تحت سطوة أمراض اجتماعية واقتصادية ونفسية تتطلب العلاج.

بسبب جو الفساد العام ولصالح أصحاب النفوذ، لدينا حالات من التدخل فى نتائج الشهادات العلمية، بكالوريوس ودبلوم وماجستير ودكتوراه وترقيات علمية، ولدينا حالات من التراخى والتحايل فى تطبيق مواد صريحة من قانون تنظيم الجامعات يتم بموجبها تحويل معاون هيئة التدريس إلى وظيفة أخرى غير علمية إذا قضى خمس سنوات دون حصوله على الشهادة العلمية الأعلى لشهادته، ماجستير أو دكتوراه، مع التحايل طالت المدة عند بعضهم لأكثر من خمس سنوات فى إعداد رسالة الماجستير بينما اصل المدة فى القانون لا تزيد عن سنتين، وطالت المدة عند بعضهم لأكثر من ثلاثة عشر عاما فى إعداد رسالة الدكتوراه بينما اصل المدة فى القانون لا تزيد عن ثلاثة أعوام، ومع التراخى يبقى كثير من أعضاء هيئة التدريس أكثر من خمس سنوات دون تقديم أبحاث للترقية، بعضهم يصل إلى سن المعاش دون ترقية.

نظام العمل اليومى بجامعاتنا يضع أعضاء هيئة التدريس ومعاونيهم أمام ضغوط أخلاقية واجتماعية واقتصادية يتعرضون معها للإصابة بأمراض نفسية، بعضهم يصيبه اكتئاب نفسى أو تبلد ذهني أو تضخم فى الذات إحساسا بالعظمة أو تصاغر فى الشأن إحساسا بالمهانة، ويحمل مبررات الفشل فى علاقاته الاجتماعية، يتزوج أكثر من مرة ويفشل فى الزواج كل مرة، بعضهم تزوج ثلاث مرات، يسافر للخارج أكثر من مرة ولا يشعر بالغنى فى كل مرة، بعضهم قضى احدى عشرة سنه فى دول النفط، ومع كل هذا الضعف النفسى والأخلاقى يصيب البعض فان نظامنا الجامعى يسمح لهذا البعض أن يصبح أستاذا فى علم ومصدرا لخلق وصاحبا لقرار نافذ، هكذا تعيش فى جامعاتنا قيادات مشوهة علميا ونفسيا وأخلاقيا.

نحن فى حاجة ماسة إلى إجراء فحص دورى على أعضاء هيئة التدريس بالجامعات لاكتشاف وعلاج المرضى النفسيين من بينهم، هكذا ننقذ المجتمع من مرضى يحملون حصانه تعاملنا معهم باعتبارهم حاملين لشهادات علمية ولكن معظمها مضروب، ويحملون حصانه عطفنا الأخلاقى عليهم باعتبارهم مرضى نفسيين ولكن لا يشعرون.
المقال نشر فى جريدة العربى الناصرى - الأحد 23 نوفمبر 200م

Tuesday, November 18, 2008

ديمقراطية . . النّت

خلال العشرة آلاف سنه الأخيرة من تاريخ البشرية مر الإنسان بأربع ثورات اجتماعية كبرى غيرت من حيثيات وجوده الثقافي والاجتماعي.

الأولى ثورة زراعية قامت على ضفاف الأنهار والوديان الخصيبة، ساومت الإنسان على استقراره فى وطن, يحرث الأرض ويضع البذور وينتظر المحصول, هكذا دخل الإنسان فى علائق الدولة المركزية بما تحويه من قيم اجتماعية وثقافية، والثانية ثورة البخور والتوابل والحرير والفتوحات الدينية وما تبعها من تقصير للمسافات عبر القوافل وطرق التجارة ونشوء إمبراطوريات تتمثل قوتها فى بؤر من قلاع وحصون عسكرية عابرة للقارات، والثالثة الثورة الصناعية وما تبعها من ظهور الإنسان الماكينة وما صحبه من مشكلات أدت لنشوء ثقافة حقوق الإنسان وتفتيت للإمبراطوريات السياسية وظهور الإمبراطوريات التجارية، والرابعة ثورة الاتصالات الحديثة وما ترتب عليها من عولمة إلغاء المسافات بين القارات وتضييق الفروق بين الثقافات، فيها تقلص دور الدولة وأصبح للأفراد حرية أوسع فى المعرفة وحياد أكبر تجاه الثقافة الوطنية.

ثورة الاتصالات صنعت مجالات جديدة لديمقراطية تخيلية يشقى بها الضعفاء ممن لا يشاركون بالعلم والثقافة فى صنع الحضارة، تتركهم ضعفاء يعيشون ديمقراطية تخيلية حين تفرغ البرامج الإعلامية الحوارية العابرة للقارات والثقافات رغباتهم فى إبداء آراء مغايرة، وتمارس أحزابهم الضعيفة ديمقراطية تخيلية فى معارضات سياسية داخل برلمانات صورية، ويمارس جيلهم الجديد ديمقراطية تخيلية فى ساحات نقاش على الإنترنت, حيث ينشئ الفضاء التخيلى للانترنت نوعا من الانتماء يقاوم به الأفراد تسلط الدولة ويوحى بالتخلص من ضغوط الثقافة المحلية، هذا الفضاء التخيلى للإنترنت يكرس وجود نوع من الديمقراطية المزيفة تلهى كثيرا من الناس عن معايشة واقعهم اليومى، إنها ديمقراطية النت.

هكذا يبقى التحدى الأكبر للإنسان المعاصر متمثلا فى مدى قدرته على التفاعل الايجابى مع ثورة الاتصالات, ففى ظل الدول غير الديمقراطية يعيش المواطنون الجانب السلبى من ثورة الاتصالات, يعيشون وهم التفاعل والمشاركة السياسية، إنهم يجترون أمنياتهم فى التخلص من الطغيان دون فعل ايجابى لتغيير هذا الطغيان، وبالتالى يتوقف أمر النهوض بالمجتمعات العصرية على مدى فعالية الإرادة السياسية للدولة ومؤسسات المجتمع المدنى فى إنشاء ودعم الوجود الحقيقى لديمقراطية حقيقية يعيشها الفرد والمجتمع.

Sunday, November 16, 2008

حديث منزلى

الشخص الوحيد الذى أستطيع أن أقرفه هو زوجتى، أخرج عينيها بعشرات من الطلبات والأوامر والنواهى المستحيلة، أعدها برئاسة مؤسسات ووزارات وجامعات وامتلاك قصور وخدم، ومع كل هذه الطلبات والوعود أعجز عن مناولتها هدمة أو كسرة خبز أو شربة ماء، فتلقانى ببكاء وشتائم وشكوى للأهل والجيران وعابرى السبيل، هكذا أفعل ما افعل مدركا أن الأحلام الكبيرة لا يقدر على تحقيقها فقراء يشحذون اللقمة والهدمة، وأن العجز يواكب عبيدا لا يسعون نحو الحرية.

ذات مرة مازحتنى زوجتى ما الذى يجعل رجالنا فى مصر أزواجا طغاة متسلطين داخل بيوتهم، عبيدا فى مجتمع يحتاج لأحرار؟ فأجبتها دون مزاح: نحن معظم رجال مصر لدى كل منا سبعا من جليل الصنائع، نغنى فى الحمامات وقادرون على التطريب، نشترك فى معاجن الطين وقادرون على إنشاء مصانع للطوب والسيراميك، نحصل على الإعدادية وقادرون على الإمساك بالدكتوراه وجوائز التفوق، نسافر لأراضى الغربة وقادرون على أن يكونوا شيوخا وأصحاب معالى، نتاجر فى النخالة وقادرون على امتلاك المطاحن والمخابز، نركب برادع الحمير وقادرون على إدارة مصانع السيارات والطائرات، نفكر فى الزواج وقادرون على إنجاب الذكور والإناث، ومع كل هذه الصنائع فان حظنا فى الحياة قليل.

نحن معظم رجال مصر، تغشانا سلطة قهر وفساد حكم، لا نملك ظهرا من خال أو نسيب يجلسنا فى حجر رعايته، يرصنا حبات فى عقد منظومته، يجمع ضعيف قدراتنا ويضخ فيها قدرات الآخرين، فنصبح فاهمين عباقرة ومتكلمين مفوهين وقادة حكماء، تصب مواهبنا مالا وسلطة فى بطون الأهل والصحاب، وتفيض دخولنا فتاتا يملأ جيوب الأتباع والمريدين.

نحن معظم الرجال فى مصر، جوعى لا نتكلم ولا تدخل الحكمة أبواب عقولنا، تتلعثم ألسنتنا عند الفطور بين خبز وبصل، ونخشى الكلام حتى أخر النهار، يأتينا غدائنا ناقصا ونكمل شبعنا بالماء، ونصمت بقية الليل نقضى عشائنا فى النوم، عاجزون عن إطعام أنفسنا.

يا زوجتى الطيبة، وحياتنا مأساة نعيشها فى مصر، ينخر الفساد فى عظامنا، وتبلى الأساطير رباط عقولنا، وتحبس قوانين الطوارئ دبيب أنفاسنا، كيف لنا إذن أن نكون رجالا عادلين فى بيوتنا، ودودين مع زوجاتنا، عطوفين على أولادنا، عظيمى القيمة بين أهلنا، أحرارا طول الوقت؟.

Monday, November 10, 2008

الدمايطة الجدد

فى شهر مايو الماضى قابلت صديقا ابدى اهتماما بالحركة الشعبية لمقاومة تلوث البيئة فى مدينة دمياط والتقت رغباتنا على زيارة المدينة، وحين ركبنا سيارتى القديمة هاجمنا صوتها الفاضح وانتابتنا رجفة الانطلاق وقليل من الحذر، وغادرنا القاهرة فى التاسعة صباحا لنقطع حولى 200 كيلومتر شمالا إلى دمياط.

اسمع يا صديقى، فى زياراتى السابقة لدمياط رايتها مدينة تقع على الشاطئ الشرقى لنهر النيل، كتلة من المبانى غير المنظمة تتخللها حارات وشوارع ضيقة تنتشر فيها مئات من ورش صناعة الأثاث والحلويات ومنتجات الألبان، لا يملك أهلها البسطاء متنفسا على نهر النيل، فشاطئ النهر الطويل استولت عليه أندية الصفوة، ومجرى النهر الضيق استولت عليه مزارع سمك يعيش على النفايات فأصبح ضارا بالإنسان والنهر، انه سمك لا يعرف العوم، وماء النهر الكسول اختلط بمياه صرف صحى تلقيها البيوت المتاخمة للشاطئ، هكذا امتلكت دمياط شاطئا نهريا فقيرا ملوثا نفاذ الرائحة، يعبرون النهر إلى محطة القطار فوق كوبرى ضيق من المعدن لا يزيد طوله عن مئة متر تم بناؤه فى أوائل القرن الماضى.

اسمع يا صديقى، رأيت فى معظم الدمايطة صناع وحرفيون يعيشون وفقا لنظام قاسى من العمل المنتج، ساعات طويلة يقضونها فى الورش الصغيرة تحكمهم ثقافة عمال المصانع قاصدين الكسب من الإنتاج والتجارة، ونتيجة لذلك أصبح متصورا لدى أمثالى ممن يعيشون على ثقافة الزراعة أن يصدقوا ملح ونوادر تشاع عن الدمايطة، حين يلاقوك ( تشرب شاى وإلا إنت مش كيُيف) وحين يستضيفونك ( تحب تتعشى وإلا تنام خفيف).

وصلنا مدينة دمياط ظهرا، وفى أول مقهى بالميدان الكبير ألقينا جثثنا على كراسى مريحة وطلبنا اثنين شاى، فجأة واجهتنا لافتة سوداء علقت على البناية المقابلة ( لا لمصنع السموم) ولافته أخرى ( نريد حياة أفضل لأطفالنا)، وثالثة (بالروح والدم نفديك يا دمياط) ، وحين بانت ملامحنا الغريبة عن المكان، لعله إجهادنا أو تكاسلنا أو لوحة أرقام سيارتنا أو تساؤلنا عن اللوحات، هى دقائق قليلة مرت علينا حتى اقبل علينا رجل هاش باش فى الأربعينات من عمره، رحب بنا وقدم لنا نفسه بأنه صاحب المقهى، ثم قال:

- أهلا بالضيوف شرفتونا، إحنا دمايطة صحيح، يعنى الشاى على حسابنا، فابتسمنا نلاطفه وجاوبناه:
- ربنا يكرمك، قل لنا الحكاية يا كريم، فجلس بجوارنا وأخبرنا:
هذه اللافتات ومئات مثلها منتشرة فى منطقة دمياط وضواحيها حتى مدينة رأس البر، الحكاية إن فيه ناس أكل العمى قلوبهم، من أجل مصالحهم الشخصية يحاولون بناء مصنع لسماد الأمونيا الملوث للبيئة والضار بصحة الناس، واختاروا أجمل موقع فى بلدنا على جزيرة رأس البر، هذا المصنع وأمثاله لا يقيمه الأوربيون أو الكنديون أو الأمريكان فى بلادهم لأنهم يعرفون أضراره على الصحة والبيئة، نحن فى نظرهم الحيطة المائلة يركبوها ببعض الأساليب الملتوية وغير الشريفة، إنهم يريدون أن يكسبوا بلايين على حساب صحتنا وعلى حساب أولادنا، مصنع سماد الأمونيا لو قام هنا فانه سيضر بحياة ومصالح مليون شخص ويقتل أكثر من ثلاثة مليون شجرة مثمرة من النخيل والفواكه، ولا يحقق فرص عمل لأكثر من مائتين وخمسين فردا فقط، يعنى عدد عماله لا يزيدون عن عدد عمال مصنعين أو ثلاثة لصناعة الحلويات، إحنا فى دمياط عاوزين الناس تشتغل وتكسب بالحلال والأصول، ويمكن إنشاء المصنع فى منطقة ثانية بدون ضرر لأحد.

كان الرجل صاحب قضية متحمس، يؤكد لنا أنه واحد من عشرات آلاف الرافضين لإنشاء المصنع، وحين تعاطفنا مع موقفه النبيل طلب لنا مزيدا من المشروبات وأقسم على أن مشروباتنا مجانية وأصر على أن يصطحبنا مودعا إلى باب السيارة.

تركنا مقهى الرافض الأول لنجد أمامنا عربة كارو تحمل بعض الكراسى الخشبية يجرها حصان يسير برشاقة وضع صاحبه ( الرافض الثانى) على رأسه لافته صغيرة من ورق مقوى تقول ( لا للسموم)، ومر أمامنا شاب صغير (الرافض الثالث) يركب دراجة هوائية وفق رأسه لافته كتب عليها (حفاظا على أطفالنا)، وتتابعت أمامنا صور الرافضين.

عبرنا نهر النيل على كوبرى واسع من المعدن، فرأينا اختفاء مزارع الأسماك داخل النهر وقرأنا لافتة كبيرة ( إحنا الدمايطة اللى نقلنا الكوبري) وتعددت اللافتات تحمل عبارات الافتخار بنقل بقايا الكوبرى القديم ووضعه على شاطئ النيل أمام مكتبة عامه رائعة ليجتمع الكبرى والمكتبة فى شكل حضارى يستمتع به سكان المدينة.

هكذا أصبحت مدينة دمياط أكثر نظافة واتساعا، يصافح وجهها نهر النيل بكورنيش جميل رائع وبمياه نظيفة خالية من بقايا مزارع الأسماك ومياه الصرف الصحى.

على مقربة من وقت العصر، خفت الشمس وتمايلت سيارتنا على طريق زراعى لمسافة عشرة كيلومترات حوله أشجار وارفة وزراعات مثمرة وبينها عشرات من لافتات المقاومة المدنية، ( بالروح بالدم نفديك يا دمياط )، (لا للفساد، لا للتلوث)، ( نحن ننقذ أطفالنا )، واستمرت اللافتات تقابلنا حتى دخلنا جزيرة رأس البر وانطلقنا إلى طرفها الشمالى حيث تقع مدينه رأس البر، وعلى لسان راس البر عند ملتقى النيل والبحر بدأ نسيم البحر يلاطفنا فى أيام صيف رائعة والتقينا بثلاثة من الأصدقاء شاركناهم الجلوس على مقاعد خشبية رصت على أرض من أحجار الجرانيت الملون، قلنا لهم:

- المكان هنا رائع ذو تصميم حضارى، لابد انه تكلف كثيرا، فرد علينا أحدهم قائلا:

- هذا المكان الجميل مشروع تجارى أقامته المحافظة وتكلف ثلاثة مليون جنيه لم تدفع الحكومة منه مليما واحدا، تتبعه بعض المحلات السياحية تم تأجيرها بحوالى اثنى عشر مليون جنيه، هكذا أصبح لدينا تسعة ملايين جنيه إيراد صافى تستخدمه المحافظة فى إنشاء خدمات حضارية للمواطنين فى باقى قرى ومدن المحافظة، خدمات خاضعة بالكامل للرقابة الشعبية.

وقال الثانى:

- هذا جمال بلدنا ورثناه عن جدودنا ونحاول أن نضيف إليه، ومع ذلك تحاول شركة أجريوم الكندية وشركائها فى مصر إنشاء مصنع للسماد ينتج فى منطقتنا خليطا من الفساد والنشادر والأمونيا والصرف الصناعى قاصدين القضاء على هذه الجزيرة الجميلة والإضرار بحق أولادنا فى الحياة فى بيئة نظيفة.

وحين سألنا الأصدقاء الثلاثة من الذى ينظم هذه المقاومة الشعبية الرائعة ضد التلوث؟ أجاب الثالث:

- كلنا دمايطة، نجود على أنفسنا بكل ما نستطيع وإنا لفاعلون.

كانت مسحة التعاطف بينهم وانشغالهم بالهم العام لمدينتهم سببا كافيا لنطرح عليهم سؤالا حيويا ذو شقين، ماذا سيحدث لو أن القيادات الكبيرة المتعاطفة معكم تخلت عنكم ؟ وما هى آلياتكم الاستمرار فى مقاومتكم؟، أجابوا فيما يمثل رأيا واحدا:

- بعيدا عن وجود أشخاص بعينها، تكون الغلبة لمن هم أكثر تنظيما وامتلاكا لآلية الاستمرار، نحن واثقون من جدوى أسلوبنا الحالى، وبالتأكيد سنغير أدواتنا حين تتغير الظروف.

مع اصفرار الشمس وعلى بعد لا يزيد عن خمسة كيلومترات من قلب مدينة رأس البر مررنا على الأرض المزمع قيام المصنع عليها غرب الجزيرة، فرأينا الخراب قادم لا محالة إذا نجح التدليس ومشاريع العولمة الجهنمية فى إقامة مصانع للتلوث فى هذه المنطقة.

فى المساء حملنا بعضا من حلاوة دمياط هدية لأهلنا فى القاهرة، لنقص على الجميع صورة انتفاضة شعبية رائعة لدمايطة جدد تؤكد أن العمل الشعبى المنظم قادر على صناعة قرارات مصيرية لشعب رائع.

Tuesday, November 04, 2008

لصوص فى التعليم

مؤسسات التعليم الخاصة فى بلادنا تحكمها قوانين اجتماعية وأخلاقية معلنة ومخفية، القوانين الغير معلنة هى الأكثر تأثيرا، والعمل بها أمر ميسور لمن كانت به خصاصة وعلى المحتاج أن ينضم إلى قائمة من أساتذة ذات مصالح مشتركة, لهم سماسرة فى القرى والبيوت ودور العبادة ومكاتب الوزارات، أحدهم يقوم بتدريس مقررات نصف تدريس، وآخر يؤلف كتبا ربع تأليف، وثالث يبيع الكتب المقررة بأكثر من ثمن البيع، وعلى الباقين أن يسهلوا عملية الامتحانات والغش والتصحيح وإظهار النتائج الباهرة، ويقتسمون الغنيمة.

أولادنا يتعرضون للصوصية واحتقان فكرى وأخلاقى على أيدى أناس مشكوك فى قدراتهم العلمية والأخلاقية، أحدهم دبلوم زراعة يملك ويدير معهدا علميا، وأخر حصل بجهد جهيد على دبلوم صنايع واشترى بسهولة شهادة دكتوراه مضروبة من دولة شرقية وأصبح يملك أكاديمية وجامعة خاصة، وثالث أقام مبنى فخم جدا على مساحة ضيقة جدا دون معامل ودون ملاعب، مبنى لا يصلح لغير بيع السيراميك والأدوات الصحية، ومع ذلك أصبح المبنى أكاديمية، هكذا دون قدرة علمية أو وازع أخلاقى ينتشر النصابون فى بلادنا، يتاجرون بالعلم ويصنعون فسادا ويهدمون كثيرا من القيم.

ذات مره سألت أحد المديرين فى معهد خاص عن وقائع فساد التعليم فى المعاهد الخاصة، فأقسم بالطلاق انه رجل طيب يقوم بخدمة جليلة للمجتمع وللحكومة، يحبس أجساد طلاب ضعاف علميا واجتماعيا فى معهده، ويجمع أموالا من أولياء أمور منافقون، فينشغل الطلاب ويستريح الآباء، هكذا يعبر الطلاب سنوات المراهقة وفورة الشباب فى معهده، يعاقرون نجاحا ورسوبا وجلوسا على المقاهى المجاورة، وفى النهاية يحصلون على شهادات مضروبة تدليسا، يواجهون الحياة بشباب واهن وعقول ضعيفة، تتلقاهم طوابير البطالة والزواج والعيش على الهامش، سواء أكانت الطوابير هنا فى دولة القعاد أو فى طوابير العيش عبيدا هناك فى دول الغربة، هكذا يتم ترويض أعداد هائلة من الشباب فلا يسببون ألما ثقافيا لأولياء أمورهم ولا يسببون صداعا سياسيا للحكومة.

إن الربح القاتل، ماديا أو اجتماعيا، يجمعه أصحاب مؤسسات التعليم الخاص سببه أولياء أمور متخلفون ثقافيا، يدفعون بطلاب علم ضعاف اجتماعيا إلى مؤسسات ترعاها دولة رخوة سياسيا تضع العملية التعليمية فى أيدى جماعة من أساتذة شطار ولصوص.

Sunday, November 02, 2008

العدد فى السكان

أدبيات أجهزة إعلامنا الحكومية ترى أن زيادة عدد السكان فى مصر تأكل فرص النمو الاقتصادى المتاحة، وتؤدى إلى دوران مجتمعنا فى حلقة فقر حلزونية تضيق وتضيق حتى نستجدى المعونات على أبواب بعض الأصدقاء وكثير من الأعداء، إنها أدبيات لا ترى الزيادة السكانية حقيقة موضوعية يمكن التعامل معها سلبا وإيجابا حسب طبيعة الفلسفة السائدة فى المجتمع ومدى رغبة الحكومة فى التقدم.

فى الدول المتخلفة تتناول أدبيات الإعلام حقيقة الزيادة السكانية من طرفا السلبى باعتبارها زيادة من أفواه جديدة تطلب المزيد من الطعام والشراب، يفتح جوعها على القيادات أبوابا من جحيم المشاكل، هذه الأدبيات تؤيدها وجهة نظر فلسفية تشاؤمية طرحها بعض مفكرى القرن الثامن عشر فى أوربا، حين اعتبروا الإنسان مجرد حيوان يعيش ليأكل فقط، وتناسوا قدرة الإنسان على ابتداع علم وتكنولوجيا ترفع من كفاءة إنتاجه الاقتصادى بمعدلات تجاوز قدرته على التناسل، هكذا إعلامنا الرسمى يعتبر المصريين مجرد أجساد تعيش لتأكل ما يلقى لها من فضل حكومتنا الرشيدة، مثل هذا الطرح للمشكلة السكانية يترك الفرصة سانحة لضروب مختلفة من الفساد الفكرى والاقتصادى وبالتالى لضروب من التخلف الاجتماعى.

فى الدول المتقدمة تتناول أدبيات الإعلام حقيقة الزيادة السكانية من طرفها الايجابى باعتبارها زيادة فى عدد الأجساد تحمل معها زيادة فى عدد القلوب والعقول، وأن الأفواه الجديدة أفواه بشرية مهمتها أن تأكل لتعيش فى ثقافة وتحضر، هكذا تعاملهم حكوماتهم باعتبارهم مجال استثمار بشرى يؤتى أكله بعد حين، هذه الأدبيات تساندها فلسفة ترى الإنسان مشروع وجود قادر بالتعليم والتدريب والانتماء على أن تتضاعف قدراته الإنتاجية فى كل الميادين، هكذا تعمل معظم الدول المتقدمة على زيادة عدد السكان لديها.

إن المتخصصين فى علم السكان يرصدون ظاهرة الزيادة السكانية فى شكل هرم من فئات العمر المختلفة، وهرمنا السكانى فى مصر قريب من ثمرة الكمثرى، رأسها صغير من قلة أعداد الكبار والشيوخ، وقاعدتها عريضة مليئة بالشباب والأطفال، ويحسن بالحكومات المصرية أن تتوجه إلى قاعدة الكمثرى بالتعليم الجيد والحرية الفكرية والديمقراطية السياسة، ولو فعلت سيكون لدينا التفاؤل الموضوعى بأن مجتمعنا مقبل على صحة نفسية وجسدية واقتصادية ترفع مكانته بين الشعوب المتحضرة.

Sunday, October 26, 2008

النشاط الثقافى فى الجامعات

جامعاتنا ينقصها الكثير لتفعيل دورها فى التنوير الثقافى، بعض القائمين على أمور الندوات الثقافية فى الجامعات يحبسوا تعاملاتهم عند مستوى متواضع ترسمه السلطة فى مجتمع مغلق، يحصرون دعواتهم على محاضرين من ذوى اتجاهات لا تمارس الاختلاف مع المنهج الثقافى القائم على الولاء الإدارى والسياسى للسلطة.

فى المجتمعات المغلقة، تتكالب القيادات الاجتماعية والإدارية على تحقيق مكاسبها الشخصية، تحاول أن تخفى معالم سطوتها، تنشر بين الناس تعريفات متباينة للمحرّمات، وينحشر وعىُ الجميع داخل أسوار من القداسة المزيّفة، وتتحول الجامعات إلى مدرّجات وقاعات بحث خاوية من حرية الرأى وجدل الثقافة، لا يشارك فى قاعات الثقافة العلنية غير بشر داجنين يحصلون على موافقة رجال الأمن والشرطة.

كثيرا ما يمنع مثقفون وفنانون من دخول مدرجات الجامعة فى ندوات ثقافية، رغم انهم يقعون خارج الجامعة فى مصاف نجوم تدعمهم وسائل الإعلام الحكومية وأدوات الرقابة الفنية، وهنا يثار تناقض وتطرح أسئلة، فهل الجامعة فى بلادنا مستقلة فى توجهاتها بعيدة عن كثير من أوامر السلطة؟ تدرج فى مخططاتها ندوات مفتوحة لكل طلاب المعرفة من كل التيارات، تمارس دورها فى تزكية الوعى لدى أفراد المجتمع، تجعل من مدرجاتها وقاعاتها منابر لمناقشة كل الآراء والأفكار، أم أن الجامعة فى بلادنا مجرد جهاز إدارى لا يملك حرية التفكير أو الإرادة؟ يحصر مهمته فى لصق بعض العبارات على عقول الطلاب، يفتح مدرجاته لمن يحملون أختام وتوصيات سلطات إدارية تفرض الوصاية على عقول طلاب المعرفة.

الإجابة على تلك الأسئلة يفرضها واقع متخلف يتم به تناول العمل الثقافى فى جامعاتنا، المسئولون عن إعداد الندوات الثقافية موظفون يخططون لأعمالهم بناء على معايير إدارية بحتة، يسعون معظم الوقت لتسديد خانات الولاء لقياداتهم، على أيديهم ورقابهم يدخل مدرجات الجامعة ذلك المثقف والفنان الذى يصنعه إعلام السلطة. النشاط الثقافى فى جامعاتنا بحاجة إلى إعادة صياغة، وأول مراحل الصياغة أن يقوم على راس القيادات الثقافية بالجامعات أناس مثقفون فنانون من بين أهل الجامعة، ذلك بأن كثيرا من طلاب الجامعات ينشدون حرية الرأى وموضوعية المعرفة، يحيون الفنان والمثقف المبدع الذى يخط على لحم عقول الناس وعيا موضوعيا يفسر واقع حياتنا المعاش.

Saturday, October 25, 2008

فلوسنا الورق

نذهب للبنوك بحثا عن النفقة والمعاش والمناقصات والمزايدات والوظائف والأخذ بالثأر، والفرجة على الناس محشورة فى الطوابير، ونحسب إمارات الهدوء على وجه صرافين لا تتحرك فيهم شعرة سعادة من آلاف النقود المرصوصة حولهم، نذهب حاملين جثثا لعملات ورقية نائمة متهالكة أسقمها التضخم الاقتصادى، تتسرب قليلة القيمة لاهثة بين أيدى الناس، يهينوها بعرقهم وكتاباتهم وإعلاناتهم السقيمة، نذهب لاستبدال جثث عملاتنا الورقية بعملات جديدة صاحية متماسكة ننفق منها على الموالد والأعياد واستجلاب الرحمات، وحبك خطط التآمر.

لأننى لم أعش زمن الهناء والمقايضة فى عصر الجنيه الجبس، حيث أقة اللحم بقرش ومهر العروسة ريال، وأعيش فى زمن النقود الورق، أضطر للوقوف فى صالة البنك لاستلام مرتبى الشهرى، أنحشر فى طابور طويل وينحشر فمى بالكلام فأتعاطى النميمة والنكات مع المطبورين أمثالى ونشرع فى صياغة عشرات من الحلول والتعاويذ والزيجات الطارئة، ومن حميمية الطابور أستجمع شجاعتى، فأظهر امتعاضى لصراف البنك لما يفعله تشويها لعملتنا الورقية، فيتكالب المطبورون على إظهار امتعاضهم منى توددا وملاطفة لجناب الصراف، وحين يفيق الصراف لفعلنا يبدى امتعاضه منا جميعا ويستمر غير عابئ فى كتابة أرقام وإمضاءات وتوصيات إدارية على أوراق عملتنا ويجبرنا على قبول التعامل معها.

لدينا أنواع من الفساد تعود بالضعف على عملتنا، وأول الفساد تلاقيه عملاتنا الورقية فى شبابيك الصرف بالبنوك، حيث لجان حصر النقود والمدراء والسعاه يشوهون عملاتنا بكتابة الأرقام والإمضاءات والتوصيات على جسدها الضعيف، ويكمل الجمهور بقية الإفساد، هكذا تسير عملاتنا بين المستهلكين حاملة مزيدا من فضائح اقتصادية بقلة القيمة، وفضائح جمالية بتشويه منظرها، وفضائح اجتماعية برسائل الحب والزواج والطهور والتعازى والذكرى، هذا الإفساد المتعمد جهلا من الناس وضعفا فى سياسات الحكومة النقدية، يتنحى فى خجل حين يتعامل نفس الأشخاص مع العملات الأجنبية فتبقى هى وحدها العملات الصاحية والنظيفة.
برغم وجود طرق اقتصادية وعلمية تقلل من سرعة دوران العملات وتجعلها تنام فى أيدى الجمهور موثوقا فى قوتها الشرائية، وبرغم وجود آلات حديثة متخصصة فى عد النقود غير أصابع وأقلام الصرافين، إلا أننا بحاجة لقانون حاسم يلزم البنوك أن تستبدل العملات المشوهة بعملات جديدة صاحية ويحظر على الجميع إساءة تداول عملاتنا، ونحن بحاجة إلى إعلام قوى يرسخ فى قلوب الناس وأذهانهم بأن عملاتنا هى إحدى رموز الوطن مثل العلم والحدود والنيل، عليهم أن يرفضوا التعامل مع حالتها المريضة، إنها رموز واجبة الاحترام.

Sunday, October 19, 2008

إغتيال الوطن

الوطن الإنسانى وجود حى يمتزج فيه البشر بالانتماء مع مكان بعينه وزمان فى حينه، هكذا فى الوطن الضعيف تدب على الأرض أجساد بشر بلا هوية، وتستطيل المسافات فارقة بين نصوص القوانين وبين روح العدالة، ويعيش الناس حياة تفح بالوضاعة، ويتكالب القهر دافعا الجميع لإدمان للرقص جنونا على حافة الانتحار.

فى الوطن الضعيف، تبدو على السطح صور لحكومة تبدو كأنها حكومة، يسعى المواطن زحفا بين أجهزتها العلنية قاصدا لملمة حقوقه المهدرة، يصعر خده لموظفين تدب فيهم حياة كالحة، يمارسون الرشوة ويغتصبون حق الضعيف ويتملقون سلطة القوى وتتعاظم قدراتهم قاصدين أن تحل هيئتهم بالقداسة فى وجدان الضعفاء.

فى الوطن الضعيف، تولد فى الظلام عشرات من الحكومات السرية يديرها موظفون لحسابهم الخاص، ينشرون الفساد ويقتلون حقوق المواطنة، يصنعون بفسادهم قدرة إنجاز فاعلة لكثير من خدمات المواطنين، فيدفعون المواطن صاغرا ليدبدب الأرض من قلة حيلة، يقدم فروض الرشوة والولاء لأصحاب السلطة السرية، قاصدا أن يتحول من عبد مهان لا تقضى حاجاته فى ظلمة الحكومة العلنية إلى سيد مهيب يشترى حقوق الآخرين فى نور الحكومات السرية.

فى الوطن الضعيف عوامل نفسية وإعلامية وإدارية تصنع الحكومات السرية، عامل نفسى يرجع إلى الاضطهاد تمارسه الحكومة العلنية ضد المواطنين، ويندفع الجميع لأن يحتموا خلف ميراثهم من الجبن والصمت، يمارسون لعبة الهروب بغير ثورة تاركين قدراتهم بعيدا عن مواجهة الفساد، وسبب إعلامى، يرجع إلى تكريس وجود بطل خرافى يحقق طموحات الناس بالخروج على كل ما هو منطقى وإنسانى، ويضغط بمعجزاته المصطنعة على وجدان الضعفاء من الناس، أما السبب الإدارى، يرجع إلى ضعف نظام المعلومات، فيخلط المواطنون بين مهام السلطات الأساسية فى المجتمع من تشريعية وتنفيذية وقضائية، وتختلط عليهم معالم الطرق الشرعية لتلبية حاجاتهم.

فى الوطن القوى توجد الحكومات العلنية القوية، تقهر بأنظمتها العلمية والثقافية وقائع الفساد بعيدا عن مواطنيها، تعمل فى بيئة من حرية الفكر وديمقراطية المعرفة، فحرية الفكر بما تعنيه من رفع القداسة عن كل فاسد تكفل للمواطن الحر أن يفسر أسباب قهر الوطن، وديمقراطية المعرفة بما تعنيه من التعامل الموضوعى مع كل فاسد، تكفل للوطن القوى أن يرفع القهر عن مواطنيه، هكذا فى الوطن القوى يبتعد الجميع عن اغتيال الوطن.
المقال نشر فى جريدة العربى الناصرى - الأحد 19 اكتوير 2008م

Wednesday, October 15, 2008

فقهاء السلطان الجائر

فى كل يوم يتلقى المسلمون مئات من فتاوى ونصائح دينية متعارضة تربك حياة البسطاء وتنشئ علاقات تخلف حضارى مهين، فتاوى التعامل مع البنوك والعلاقات الأسرية أمثلة.

فإذا كان القرآن هو االمصدر الأول فى التشريع الإسلامى وكان صحيح السنة يأتى مصدرا فى المرتبة الثانية، وإذا كان الكثير من الآيات والأحاديث يصعب فهمه أو تناول حيثياته بالنسبة لعقل المسلم البسيط المحاصر بثقافة متواضعة، ستكون النتائج المنطقية المترتبة على هذه الفروض هى صعوبة فهم الأسس الفكرية لصحيح الإسلام المعتمد على القران والسنة، ويبقى العقل الجمعى للمسلمين عاريا أسطوريا فى مواجهة فتاوى فقهاء السلطان، عار عن التقييم فلا يستطيع الفصل بين الغث والثمين، أسطورى يكرس لقدسية فقهاء السلطان فكرا وسلوكا، انه عقل جمعى يستعذب تخلفنا المريع حضاريا ولا يجد غضاضة فى صياغة أساطير تبرر قدسية هذا التخلف.

الفقيه المعروف فى عصره، صاحب الفتاوى الأولى بالإتباع، هو إنسان لا قدسية لفتواه، والفتوى عند العقلاء تبقى فى كل وقت محل تصديق أو اجتهاد، هذا الفقيه يحتاج وجوده إلى علم يصل إلى الناس من خلال سلطة عقلية تصنعه تؤازرها سلطة إعلامية تنشره، هكذا تسعى سلطة الحكم لصناعة عقل جمعى تحشر فيه قدسية وجودها، تلبس فى عقول البسطاء أن فتاوى فقهائها أقوال مقدسة وعلم مضبوط، ويبقى السلطان الجائر ممسكا بمصادر العلم وبأدوات السلطة.

هكذا مع غياب العلم أصبح البسطاء فى بلادنا يسعون من جهل أو من مصلحة لتحقيق مصالحهم عبر ما يستهويهم من فتاوى دينية، قد يرون أن فقهاء الوهابية فى الحرم المكى أكثر قدسية من فقهاء السنة فى الأزهر، أو يرون أن أهل الأزهر أكثر اقترابا من ولاية الحق عن فقهاء الشيعة فى قم والنجف الأشرف، إنهم بسطاء لا يعلمون أن فقهاء الحرم أو الأزهر أو النجف أو قنوات التلفزيون أو صحف الحوائط مجرد علماء دين حبيس لا ينشرونه دون الاستعانة بقوة سلطان يطمعون فى جواره، سواء كان السلطان ملكا خادما للحرمين بمكة أو رئيسا فى الأزهر بالقاهرة أو إماما معصوما فى قم بإيران أو مختبئا فى النجف بالعراق أو وزيرا فى التلفزيون أو مجندا فى مباحث أمن الدولة أو مولاى فى المغرب.

هكذا مع غياب الحرية السياسية فى بلادنا تنتشر تجارة الفتاوى الدينية الرديئة، يصدرها فقهاء السلطان الجائر، تطمس قلوبنا فنعيش فى الخرافة، وتكفر عقولنا فلا ندرك موضوعية وجود الأشياء من حولنا، ولا ندرك أن ما يبقى صالحا فى الأرض هو الفكر الموضوعى، فكر يبنى على العقل ويقبل محنة الجدل وينسب قدسية الفكرة إلى مدى صلاحيتها لتحقيق رفاهة الإنسان

Monday, October 13, 2008

كهنة الرأى العام

الرأى العام هو الذى يلبس المواطنين فكرة الانتماء والمواطنة، وصناعة الرأى العام للمواطنين تقوم على مستويين، مستوى موروث ثقافى صنعه كهنة إعلام تاريخيون يجمعون الموروث فى تاريخ منطوق وفن شعبى متداول، ومستوى حاضر يصنعه كهنة إعلام معاصرين يتحكمون فى وسائل الدعاية والإعلام، كلا المستوين يمارس دور سطوة وكهانة على العقول، هكذا يرجع فساد الرأى العام لفساد كهنة إعلام يملكون قدرا كبيرا من فساد الذوق وسوء النوايا، ينصبون موائدهم فى أرفف المكتبات ووسائل الإعلام وحواف الذاكرة.

فساد الذوق لدى كهنة الإعلام التاريخيين لا نملك أمر تعديله ذلك بأنهم عاشوا عصورهم بظروفها، أما فساد الذوق لدى كهنة الإعلام المعاصرين يمكن تعديله، انه يتمثل فيما يقدمونه من برامج إعلامية تستهين باللغة وتنفث انحطاطا لفظيا، تستخف بالبشر وتجعل منهم مسخا للفرجة، تسعى لترويج فكرة المقامرة، وتبث إيمانا بأن الكسب والثراء يعود لضربات حظ غيبى، إنها برامج تحول الاستوديوهات وقاعات التحرير ولافتات الشوارع إلى مصاطب، تتحرك عليها عرائس وتماثيل لبشر منخفضة فى مستواها الثقافى ومشوهة فى رؤاها الجمالية.

يتمثل سوء النوايا لدى بعض كهنة الإعلام فى تسابقهم على شق جيوب من يدفعون رشاوى تقديمهم فى برامج إعلامية تعود بالشهرة والمال على من يصنعون الانحطاط الغالب فى ثقافتنا، يعرضون صورهم على المواطنين كمعيار للتفوّق ومصدر للقيم، وواقع الأمر أن دافعى الرشاوى ليسوا على نبيل من القيم والأخلاق، وأن كثيرا من محترفى إلقاء المواعظ والحكم السّقيمة ليسوا من حماة القيم أو سدنة الأخلاق، هكذا تجرُنا وسائل إعلامنا سادرين فى تخلفنا، نصنع تماثيل قداسة لصنف من البشر، خارجين على قيم التحضر الإنسانى.

إن معظم موادنا الإعلامية المقدمة لجمهور المواطنين، تغلب عليها روح الدعاية لرأى محدد، وتروج لأفكار بعينها، عدوانية لا تترك الفرصة للرأى الأخر أن يظهر على الساحة، هكذا يتدرب المواطنون على رفض ديمقراطية الحوار ولا يتمكنون من حرية صنع ميولهم الثقافية.

حين نسعى لتثبيت هويتنا القومية، من نحن وفى أى زمن نعيش، فنحن بحاجة إلى سياسة إعلامية واضحة، نعلن أهدافها ونكرر إعلانها على رؤوس الأشهاد، قاصدين بسياستنا الإعلامية توضيح العلاقات بين حقوق الجماعة وحقوق الأفراد وقاصدين الفصل بين المنتمى لهذا الوطن وبين المنتمى لوطن آخر قد تتضارب مصالحنا معه.
المقال نشر فى جريدة العربى الناصرى - الأحد 12 اكتوبر 2008م

Tuesday, October 07, 2008

إنهم يستحقون المساءلة

بعض المصرين من المسلمين السنة، خصوصا فى مدينة رفح المصرية ومدينة المنيا بصعيد فى مصر، جهروا بإفطارهم يوم وقفة عيد الفطر، ولكى نراهم هكذا نحن بحاجة لأن نرى بعض الأمور النظرية.

الانتماء الفردى لأى دين، وضعى أو سماوى، هو أمر شخصي يرتبط بإرادة الفرد وظروف نشأته، من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وباجتماع عدد من الإرادات الفردية حول الانتماء لدين معين ينشا فى المجتمع جماعة بشرية من أتباع هذا الدين.

كل دين وضعى أو سماوى له طقوس وعبادات يؤمن بها جماعة أتباع هذا الدين، يضبطون بها سلوكهم الجمعى ويتواصلون بها مع الآخرين، ويقوم على تأديتها قدر المستطاع كل فرد ينتمى إلى هذه الجماعة.

السلام الاجتماعى فى جانبه الدينى يسود فى المجتمع حين تبدو صفات كل الجماعات الدينية داخل المجتمع ظاهرة أمام الجميع، فلا يتم التمييز فى المواطنة بين تلك الجماعات بسبب انتماءاتها الدينية ويسهل التحول والحراك الدينى الفردى والجماعى.

السلام الاجتماعى فى جانبه الدينى يتحقق بين جماعات المجتمع حين توجد دولة قوية تلزم كل جماعة بإعلان طقوسها وعباداتها أمام بقية الجماعات.

الدولة كيان سياسي يمتلك احتكار السلطة للحكم واستعمال القوة والعنف بالنيابة عن مواطنيها ضمن مساحة جغرافية محددة السيادة، لذلك تملك الدولة كثيرا من المؤسسات المنظمة للأنشطة السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والدينية بقصد تحقيق السلام الاجتماعى بين المواطنين والحفاظ على مصالحهم.

بعد هذا التمهيد النظرى يمكننا القول بتجريم فعل جماعة المسلمين من المصريين حين احتفلت بعيد الفطر يوم الثلاثاء خروجا على فتوى دار الإفتاء المصرية بأن يوم عيد الفطر هو الأربعاء، وباعتبار دار الإفتاء أحد مؤسسات الدولة فى تعاملها مع الدين الإسلامى على المذهب السنى تصبح فتواها ملزمة لجماعة المسلمين السنة من المصريين على ارض مصر، خصوصا أن الفتوى صدرت بشأن موضوع غير خلافى، وعليه يصبح الخروج العلنى علي هذه الفتوى خروجا وعصيانا مدنيا ضد الدولة يستوجب استخدام القانون لتجريمه ويستوجب القوة لمنعة، التجريم هنا ليس منصبا على فعل حرية العبادة أو عدمها، التجريم ينصب على واقعة خروج عن النظام لا يرى أصحابها فى خروجهم جرما ارتكبوه بل هم يزايدون على ثوابت الدين والسياسة.

الأصل أن الناس أحرار فيما يدينون به، لكنهم ليسوا أحرارا فيما يدعون إليه، فعلى الطرف الآخر من الدعوة يوجد من يدين بغير دينهم، وعليه فمن شاء من الأفراد أن يفطر فى رمضان ويحتفل بالعيد على طريقته وأراد فى نفس الوقت الحفاظ على سلامة المجتمع، عليه أن يتوارى بعيدا عن أنظار شارع عام تحكمه الدولة أو أن يتحمل مواجهة قوة تلك الدولة.

نحن نرى أن الحكم بالتجريم هنا يماثل فى حيثياته وقائع تجريم الإفطار جهرا للمسلم الفرد فى نهار رمضان، هكذا، أن يعلن مصرى انه مسلم سني ثم يخرج علانية على رأى دار الإفتاء المصرية السنية فى قضية غير خلافية، ليتبع رأى أفتت به طائفة أخرى غير مصرية وفى بلد غير مصر، يكون قد ارتكب خروجا شرعيا يستوجب المساءلة الدينية وخروجا سياسيا يستوجب المساءلة الاجتماعية.

Sunday, October 05, 2008

!!عذاب أعيادنا

فى صباح كل يوم عيد من أعيادنا الدينية، يتماوج كثير من المصريين بين الأزقّة والحارات والشوارع والميادين، يتجمعون فى احتفاليات كبيرة، يتلقون التّهانى وينطلقون نحو المقابر، ينتشرون حول موتاهم، يلطّعون أجسادهم على الجدران والمصاطب والأبواب والشّبابيك، يوزّعون نقوداً وخبزاً ولحوماً وبعض الدّموع، ويستعرضون ما جَنتُه أيديهم تفاخراً وضعفاً وكبراً، ويشترون أدعيةً وزهوراً وكثيراً من النّميمة على موتى الآخرين.

احتفاليات أعيادنا عند المقابر، يشارك فيها كثير من مرضى لم يموتوا، يتجمّعون حول موتى تركوا دنيا لم تكن طيّبة تماما، ولا أحد من المرضى ينتبه لمعنى الأعياد، الشّحاذون من بائعى الأدعية أمام المقابر، هم الأكثرُ انتباها، يجيدون إيهام الجميع بأنهم يتلون اللاّزم والضّرورى من الأدعية، ويحفّون ببركاتهم حول من يدفع أكثر، والشّحاذون من بائعى الزّهور يقتصّون الثّمن من أناس مضروبة لديهم مشاعر الجمال، فيبيعون زهوراً كالحة نافرة فقيرة، يقٌطَعونها من حواف التّرع والمصارف والحدائق، ويرسُخ لدى الجميع بأن تمام الاحتفاليات، قرين بتحقيق أكبر قدر من الأدعية واللّحوم والنّقود والخبز والزّهور الذّابلة.

لا أحد بيننا يعقل معنى العيد، سواء كان بسيطا يصيبُ نفسه بالسّرور بضع مرات كل عام، أو كان ميسورا يضيف لقائمة تواجده الاجتماعى مزيدا من الحفلات، فالأمور عندنا مختلطة تماما بين ذكرى الموت وتذكّر الحياة، ووجداننا الشّعبى لا يحمل مساحة فاصلة بين الموتى، بما لهم من فضل قدّموه فى ماضينا، وما بين الأحياء بما عليهم من واجب يقدّمونه لحاضرنا، ومع ضحالة ما يعرض أمامنا من ثقافة، نتحوّل إلى قوم يأكلنا الزّحام وفساد المشاعر، وتتمطى مقابرنا على أمواتنا اتساعا، وتطبق منازلنا على أحيائنا ضيقا.

كثير من وقائع تاريخنا شقّت فى الصّدور أن أصحاب أمرنا من الأحياء، يملكون سحٌنات تجلبُ الشّقاء وتقطع الرّزق، هكذا تحوّلت أعيادنا الدينية إلى احتفاليات ندعو فيها الموتى ونسترضيهم أن يأخذوا بناصية كل أمر، واختلطت الوقائع فى ثقافتنا فلم نعد نفرّق بين بركة كاذبة تصيبنا من أدعية نشتريها بلقيمات وقطع من لحم، وبين البركة الصادقة التى تحلّ علينا من تعب نصيبه فى طرق أبواب الحضارة.

أيتها الأعياد لا تكثرى من عذاب قبورنا، وحاذرينا من (بُمب) الانفجار.

Tuesday, September 30, 2008

!! حادثة اشتباه


الحب لا يأتى صدفة، انه يولد ويعيش بالادارة البارعة، انها سلسلة من الملاطفات المناسبة والخوف المبرر والمؤامرات الصغيرة.

فى صباح اليوم الثانى من الأسبوع المناسب، تأكدت أن أولادنا ذهبوا جميعا لأشغالهم، وأن زميلى فى العمل نجح فى تسليك اجازة لى من فم رئيسنا المباشر، وأن بقايا مرتب الشهر تكفى خمسة أيام قادمة، وأن شمسا هادئة تضم شقتنا فى دفئ لذيذ، عندها قررت الجلوس فى الشرفة مع زوجتى الطيبة نتناول كوبين من الشاى بالنعناع نرشف معهما جرعات وصل ورضا، وحين أضاءت شمس الشرفة بهاء زوجتى, رأيت أن شاى الأرض ونعناعها لا يفيان بمتطلبات الوصال بين الأحبة وقررت النزول فورا متواثبا فوق سلالم العمارة لأشترى زجاجة مياه غازية، مؤكدا لنفسى أن العاشق الكبير لا يشرب إلا من عبوات كبيرة.

فى محل البقالة ظهرت الزجاجة كبيرة مليئة بمياه غازية باردة، وحين تماوجت أساريرى تغازل الظلال حول الزجاجة ابتسم صديقى البائع وغمز بعينه اليسرى وأعطانيها فى كيس مزركش مع قطعتين من اللبان الدّكر، عدت أدراجى إلى الشرفة حاملا الكيس المزركش واللبان الدّكر ووضعتهم حانيا أمام زوجتى بجوار كوبين فخيمين من زجاج لامع، وبدلال العاشقين فتحت الكيس وسحبت الزجاجة متمهلا شمسنا الهادئة كى تشهد عواطفى الكبيرة.

لم تكن الشمس هادئة تماما فقررت أن تسلط ضوئها على جلستنا، بدت الزجاجة محكمة الإغلاق لكن لون مياهها الغازية مختلف، فجأة ظهر بداخلها كتلة من جسد حيوانى غير واضحة الملامح، ليست جثة صرصار فإنها أكبر كثيرا، وليست جثة حمار فإنها أصغر كثيرا، ربما هى بقايا جثة كلب أو أن أحدهم قتل غريمه ووزع جثته على مئات من الزجاجات المشابهة، وحين أعلنت حدسى أن الجثة بقايا فأر رضيع، صرخت زوجتى وهاجمها القىء وتركتنى وحيدا فى شرفة الأنس، وأصبح على التوقف عن تصور المزيد من الجثث وأن أحمل الزجاجة غاضبا لأعيدها للبائع.

ساومت البائع على استرداد ثمن الزجاجة وتنابزنا بالألقاب، تدخل بعض الطامحين من الجيران وساومونى على اقتسام أموال سأكسبها من رفع دعوى قضائية على منتج يستهين بأرواح المواطنين ويبيع جثثا فى المياه الغازية، وحين تكاثرت الحكايات والنصائح تحولت الزجاجة عندى الى كنز مرتقب، يسدد ديونى ويشترى بيوتا وعمارات ويخلصنى من نكد زوجتى المخبوء، وبدأت التفكير فى اقتناص طرق الثراء.

الأفضل أن أذهب بالزجاجة لإبلاغ الشرطة وأحصل على تعويض، فرأيتنى سأقف فى طابور من يشكون إهمال جمعيات رعاية المستهلك ويشككون فى نزاهة رجال الصناعة، وسيطول انتظارى فأشعر بالتعب وتقع الزجاجة على الأرض وتتهشم ويضيع دليل الجريمة، هكذا تقبض الشرطة على بتهمة إزعاج السلطات، إذن لا داع للذهاب إلى الشرطة.

الأفضل أن أعطى الزجاجة لمحام شاطر يلعب فى المحاكم بالبيضة والحجر، وأحصل على تعويض، فرأيت المحامى سيطلب منى مقدم أتعاب ويقنعنى بأن القضية خاسرة ويقبض التعويض بالملايين ويبلع حقوقى، إذن لا داع للاستعانة بمحامى.

كان اختيارى أن أبقى حالما فقررت كتابة مقال صحفى عام، أطالب فيه جمعيات رعاية المستهلك والشرطة والمحامين والصحافة أن يهبوا من أجل صحة وكرامة المواطنين، لأعاود الجلوس هانئا مع زوجتى الطيبة، نرشف أباريق من الكركديه والشاى بالنعناع ونمضغ أطنانا من اللبان الدكر.

Sunday, September 28, 2008

تعليم بير السلم

ملايين من المصريين، ينضمون لسوق العمل الحكومى أو الخاص بمؤهلات غير جامعية، يعانون من فساد نظام إدارى وثقافى فى الدولة يعطيهم تواضعا فى المرتبات والترقيات والمعاشات والتفاخر الاجتماعى، هكذا أصبح لدى بعضهم رغبة فى الحصول على شهادات جامعية تحسن واقعهم المهنى والنفسى والاقتصادى.

مع التخطيط يرى خبراء التعليم أهمية التعليم المفتوح، انه إضافة ثقافية ومهنية لنوع من الطلاب لهم ظروفهم الخاصة، لكن مع التنفيذ فى قاعات الدرس يرى رجال التعليم أن سلوك طلاب التعليم المفتوح أبعد عن سلوك طلاب العلم واقرب إلى سلوك شحاذين يطلبون أوراقا مختومة بشهادات تحسن من وجاهتهم الاجتماعية وترفع بعضا من معاشاتهم، أنهم صيد ثمين يجب الثراء على حسابه.

فى أول محاضرة ألقيتها على طلاب من التعليم المفتوح، ظهرت الصورة واضحة أمامى، معظمهم أباء وأمهات وأصحاب بيوت لديهم إمكانياتهم فكرية وثقافية متواضعة، يملكون تصورات إنسانية جميلة عن شهادات علمية يسعون إليها، يتحملون مشقة التعليم فى جو فاسد ثقافيا واجتماعيا واقتصاديا، فى قاعات الدرس يبررون كسلهم الطلابى بأعباء مهامهم الوظيفية، وفى أعمالهم يبررون كسلهم الوظيفى بأعباء مهامهم الطلابية.

منذ البداية قررت أن أكون أستاذا يحاضر طلاب علم يرون أن طلب العلم جهد إنسانى شريف لا تصلح معه سلوكيات الشحاذة والغش وإبداء الأعذار، فاظهروا تعاطفهم مع موقفى، وحين منعت طالبة أتت متأخرة من دخول المحاضرة انهارت وبكت، وحين لمت طالبا على عدم التزامه بأصول المناقشة العلمية غضب وانزوى، ومع الانهيار والغضب ظهرت دلائل خداع وتدليس يمارسه كثير من أساتذة التعليم فى جامعاتنا حين قال بعضهم لى : ارحم طلبة التعليم المفتوح وارحمنا معهم، إنهم مصدر رزق لنا، إنهم مرضى اجتماعيا ومتخلفون ثقافيا، يدفعون نفقات الدراسة كاملة ليشحذوا بها شهادات علمية، وعلينا أن نعطيهم شهادات بأقل جهد ممكن ودون إحراز تفوق، هكذا نتخلص منهم ولا يطرقوا علينا أبواب الدراسات العليا.

قضية التعليم المفتوح فى بلادنا تشبه فى كثير من الأمور قضية التعليم الخاص فى مدارس بئر السلم والشقق المفروشة، إنها قضية تعليم طلاب يتناولون بداية الأمور بحسن نية ثم يتنازعون نهاية رغباتهم مع تجار علم فاسدين، هكذا يجنى المجتمع شهادات علمية مضروبة بالتدليس، ويتاجر المسئولون بأرقام صورية للمتعلمين.

المقال نشر فى جريدة العربى الناصرى - الأحد 28 سبتمبر 2008م

Monday, September 22, 2008

رقصة ماجنة


كان جدى الأكبر رأس عائلتنا مرددا للشعائر وموزعا للبركات ومطربا عند الضرورة، يهفو على الأجران عند كل حصاد، يسقط على المآتم عند انتهاء كل أجل، يحترف تفصيل الأحجية وصَرّ الدّعاء وربط الأزواج وتسهيل الولادة.


ذاع صيت جدى الأكبر وانتشرت أسفاره يجوب القرى والكفور، يمتطى حماراّ وبطانة من المساعدين، ابن العم وكيلا عنه وحاملا عصا خيزران يهمز بها الحمار، والابن الوحيد متدرباً ووارثا شرعيا للمهنة، وابن الخال حافظا للأسرار وهاربا من فلاحة الأراضى.


فى ضحى يوم حار من أيام قحط، طوّفَ بالقرية خبر عاجل بأن عظيما مات فى قرية مجاورة، فتواثب ابن العم يهرول تحت الشمس عابرا القنوات والحقول قاصدا بيت الميت، يقدم للورثة والتابعين عروضا مغرية، كثير من الأدعية والشهرة مقابل قليل من النقود وطعام كثير اللحم والدهن، كان قحط البطانة وطموح الورثة كفيلين بنجاح المفاوضات وإبرام التعاقد.


مع حلول وقت العصر، امتطى جدى الأكبر حماره وانطلق فى موكبه يثير غبارا وأصواتا عابرا القنوات والحقول قاصدا دار الميت العظيم، ووضع بن العم خطة استبعاد جدى الأكبر بعيدا عن تناول أى لحم,


انفرد ابن العم بأهل الميت ليخبرهم أن الشيخ أصابه توعك مفاجئ لا يصلحه غير تناول خبز مفتوت فى اللبن مع السكر، فالتزم أهل الميت بتقديم طلبات وكيل الشيخ، وحين امتلأت البطون وكفّت الأفواه عن البلع، وتناثر اللبن على الذقن، انحشر رأس جدى الأكبر بتفاصيل خطة مناسبة لاغتيال ابن العم.


مع دخول الليل افتتح جدى الأكبر مراسم حفل المأتم، يقرأ ما تيسر من نصوص خالدة ونحنحات مرصوصة، وحين هاجمت رائحة اللحم خياشيمه قرر أن يترك ابنه الوحيد ليستكمل دوره فى المأتم، وأفل راجعا إلى داره مصطحبا الحمار وابن العم وابن الخال وخطة الاغتيال.


على طريق العودة تعمد جدى الأكبر أن يستريح ركبه بجوار ساقية مهجورة، وحين تأكد أن النجوم زاهية ترسل ضوئها الخافت بما يكفل له تنفيذ فعل ما دون أن تكشف لأحد تمام ذلك الفعل، أعلن رأيه صائحا للجميع : اللحم علاج لكل توعك، وهجم بكلتا يديه على رقبة ابن العم دافعا جسده إلى بئر الساقية، حين اقترب جدى الأكبر من حافة البئر تدخل ابن الخال ونهق الحمار وبدأ الجميع رقصة ماجنة.


هكذا انهارت أنسابنا ولم يبق من عائلتنا غير أربعة أشخاص، ولدى الوحيد وريث حرفتى، وابن عمى وكيل أعمالى، وابن خالتى حافظ أسرارى، وأنا الذى أعانى من جهل الآخرين بتاريخ جدى العظيم.


Sunday, September 14, 2008

حوادث تصادم

حين أصبحت الشمس شمس عصارى، درت حول سيارتى بوقار تشوبه روح غندرة شبابية، أراجع صلاحية السيارة وتمام شكلها وأتحسس انطباع الآخرين بالانبهار.

ألقيت جسدى على مقعد السيارة متحسسا أجهزة الانطلاق ثم أرسلت نظرات متتابعة أتفحص وجوه المحيطين من البشر، ألقى عليهم علامات ابتسام وعبوس وغزل وتعال، وحين أحصيت فى الوجوه عدداً مناسبا من التحيّات والسلامات وعلامات الوداع، أدرت جهاز التكييف وشرعت فى التحكم بأجهزة القيادة، وانبريت أقود السيارة متباطئا ومتسابقا ومناورا، أقطع طريق الإسفلت بين الأشجار نحو مدينتى البعيدة.

باغتتنى بين جموع المودعين ابتسامة رقيقة لفتاة بدا جمالها طاغيا، فرأيت أن أهدى الجميلة قيادة رائعة، تداعب فيها ريح العصارى سيارتى، وتصدح معها أنغام لأم كلثوم فى صالون قيادتى، ويهفو وجدانى للقاء كل الجميلات، وظللت أتهادى.
مرقت بجوارى سيارة تركبها امرأة شابة يشاكس شعرها الطويل هواء الطريق، فرأيت أصابعى فى الزمن القديم تربت على كتف زوجتى وتسرق لمسات لشعرها الطويل، ثم تعاود الإمساك بحبات الترمس والفول وزجاجات المشروبات الغازية، نأكل ونشرب ونضحك ونصنع أحاديث العصارى على شاطئ النيل، وظلت الموسيقى تنساب فى السيارة.

فجأة لمحت خلفى سيارة جيب فخمة تأكل الإسفلت مسرعة نحوى، كان الفارق كبيرا بين سرعة سيارتى الحالمة وسرعة الجيب المتفاخرة، خرجت من أخيلتى لأبتعد عن طريق الجيب وهى تتابع مناوراتها فى تخطى سيارة أخرى تسير فى رعونة، فجأة انحرفت سيارة الجيب إلى أقصى يمين الطريق واندفعت إلى حقل قطن مجاور، انقلبت الجيب مرتين ثم استقرت على ظهرها، وبدأت عجلاتها تدور فى الهواء، وفرت السيارة الأخرى.

اتخذت جانب الطريق مبطئا سرعتى لأستكمل رؤية المنظر، أخذت السيارات تواصل سيرها وتوقف بعضها للفرجة، وحين فكرت فى التوقف، تذكرت كراهيتى لضابط شرطة أجبرنى على تغيير طفاية حريق السيارة رغم صلاحيتها، ورأيت أن من يملكون سيارات فارهة هم لصوص يستطيعون العلاج فى الخارج، وأننا بحاجة إلى تطبيق قوانين غير موجودة ونطبق قوانين لسنا بحاجة إليها، وبأننى فى حال وقوفى سأحاكم على اعتبار أننى الصانع الوحيد لحوادث كل الطرق، والقاتل الوحيد لكل المصابين.
أسرعت مبتعدا عن موقع التصادم، وظلت إجابة السؤال معلقة، كيف لشهم ومواطن مثلى أن يترك سيارة تتلوى فى انتظار المساعدة؟
=============================
المقال نشر فى جريدة العربى الناصرى ، الأحد 14 سبتمبر 2008م

Monday, September 08, 2008

ثأر قديم

ظلت الشمس سنوات تحاول أن تغمر بالضوء حجرات دار أبو العز، طردا للحشرات الصغيرة وبيوت العنكبوت، إلا أن دار أبو العز كانت حجرتين وصالة ضيقة من الطوب اللبن، تغطيها طبقات قديمة من القش والحطب، تبص على السماء من فتحات طينية صغيرة وتنام محشورة فى حارة "النقرة" بين عدد من الدور المماثلة.
لأن أسماءنا ثأر قديم، أهملت القرية شأن أبو العز كما أهملوا شأن عائلته، فأهل الحل والعقد والسلطة وكبار اللصوص ينتمون إلى عائلات أخرى، وظل أبو العز يبحث عن أسباب العز، يحوم حول جلسات الكبار ويجمع أسرار القرية.
أبو العز كان عبقريا مراوغا يكره شمس الظهيرة، فى أواخر الليل هو لص رشيق يتسلق حوائط الدور والزرائب ليجمع الشارد من آهات ودجاج وبط وأوعية نحاسية، فى أوائل النهار هو تاجر ماكر يجرى اتفاقات سرية للتخلص من سرقاته نقدا أو بالمقايضة، وفى أواخر النهار هو فقير غلبان تستأجره نساء القرية، مقابل بيضة أو رغيفين من القمح، لينادى على ما ضاع منهن من دجاج وبط وأوعية نحاسية، وفى أول الليل يعود عاملا مجهدا إلى داره.
تآمرت الحكومات على أهل القرية، فضاقت معيشتهم وأفكارهم وتآكلت أنسابهم، وسافرت أفواجهم إلى بلاد الغربة، واختار أبو العز الأوقات والطرق الملائمة للسفر والعمل فى بلاد الغربة، وعاد بعد سنوات محملا بالهدوم والنقود والمراوح وزجاجة من مياه مقدسة.
على أنقاض الدار القديمة ودار غريم ملاصقة أقام أبو العز داره الجديدة، طابقين من الأسمنت المسلح، مدهونة حجراتها بالبويات الملونة، ويعلو بابها جرس يرن بأصوات البلابل، وفى مدخلها كنبات خشبية وكرسى فخيم من الخيزران.
حين أعلن رئيس الدولة عدم خجله من وجود مهندس أنهى سنوات تعليمه الجامعى وأجبرته سياسات الحكومة على العمل مبيض محارة، صار المثل الشعبى قانونا رسميا، المواطن يساوى قدر ما يملكه من نقود.
هكذا أطلت الشمس مرات عديدة على مجلس أبو العز، يركب الكرسى الفخيم وسط مريديه، يؤكد أن الدجاج فى بلاد الغربة يبيض ذهبا، يحكم بين المتخاصمين، يأمر بإصلاح أحوال النساء، يقرض الراغبين فى السفر أو الزواج، وينصح المتآمرين على صنع ثورة جديدة.
=======================

Sunday, September 07, 2008

تجربة الكتابة لجريدة البديل

فى شهر مايو الماضى، وصلنى خطاب على البريد الالكترونى من مسئول صفحة الرأى فى جريدة البديل القاهرية، يطلب منى مقالا للنشر فى الجريدة مقابل أجر، ولأن الكتابة تمثل فرحا خاصا لى تلقيت شكل الخطاب بالقبول، وحين اتصلت بالمسئول هاتفيا أخبرنى انه يعرفنى من خلال مدونتى الالكترونية (رقبة الحمامة)، وطلب منى مقالا يتواصل مع الأحداث الجارية ويعارض رأى بعض الكتاب فى الجريدة، وحين شرح وجه نظرة فى أن الكتابة على المدونات هى كتابة ذاتية لا تصلح للصحافة اكتشفت أنى أتعامل مع تاجر متواضع يخطو حديثا فى عالم الصحافة، لا يفرق بين الكتابة الجميلة وبين كتابة توصيل الطلبات للأدمغة، هكذا انتابنى مشاعر قرف من فكرة التعامل بهذه الطريقة مع الجريدة، وأهملت الاستجابة إلى طلبه.

مر شهر على حادثة مسئول صفحة الرأى، وفى شهر يونيه اتصل بى رئيس تحرير الجريدة فى خطاب على البريد الالكترونى طلب منى أن اكتب عمودا صحفيا أسبوعيا مقابل اجر، ظهر لى أن الأمر جاد فأجلت موافقتى ثلاثة أسابيع درست فيها مع بعض الأصدقاء طرق التعامل مع جريدة يرى أصحابها أنهم يساريون مصريون.

حين اختمرت رغبتى فى الكتابة إلى الجريدة تحدثت مع رئيس التحرير، وفى اتصال تليفونى ثم فى لقاء شخصى أشاد بأسلوبى فى الكتابة وقال انه نوع نادر جميل ويحبه، وطلب منى أن اكتب عمودا أسبوعيا فى الجريدة يمثل كامل حريتى فى اختيار الموضوع والأسلوب المناسب، وهذا بالطبع داخل الدائرة العامة لأخلاقيات الكتابة دون تجاوز للخطوط الحمراء للصحافة المصرية، كانت دماثة خلق الرجل ووده معى سببا فى أن اشعر بالسعادة وأقبل مخلصا فى الكتابة لجريدته، ووعدته أن أبذل جهدى كى اصنع ست أو سبع أعمدة جيدة على الأقل من بين كل عشرة أعمده اكتبها.

على مدى شهرى يوليو وأغسطس نشرت ثمانية أعمدة أسبوعية متواصلة فى صفحة الرأى، كانت كتاباتى أدبية اجتماعية فبدت نوعا غريبا فى صفحة تضم كتابات متجهمة قليلها كتابات رفيعة المستوى من حيث الصياغة ووضوح الفكرة، وكثيرها نشرات حزبية وكتابات مكرورة سطحية ساذجة.

فى عمودى الثامن كتبت رأيا عن قضية التحول الدينى فى مصر من المسيحية إلى الإسلام، بذلت جهدا فى صياغة رأيى ليحمل الصياغة العلمية والعرض السليم، وحين حادثت رئيس التحرير عن العمود فى شكل صورة أرسلتها إليه قبل النشر قال: انه يفضل لى الابتعاد عن المواضيع التاريخية وأن أبقى فى منطقة أخرى من الكتابة أجيدها، كان الرجل متحيزا لرأيه وانهى حديثه قائلا: على كل حال المقال هو رأيك، وفى موعد النشر رأيت العمود منشورا فى الجريدة كاملا.

ذهبت للجريدة فى زيارة عمل، وفى لقاء مع مسئول صفحة الرأى قال: أنا لم افهم مقالا سابقا لك وبرغم ذلك نشرناه (المقال يتكلم بأسلوب أدبى عن حالتى لحظة استلامى أول مبلغ من الجريدة، مقال يتعرض لبعض مكونات الجو النفسى المحيط بالصحفيين فى مصر)، وأردف متوجسا فى قلق وقال: أتمنى أن تقترب مقالاتك من القراء، هنا أدركت يقينا أننى أمام قارئ لأعمالى ليس لديه معرفة بالمقال الأدبى وليست لدية رغبة فى أن يرى نوعا راقيا من الكتابة الصحفية، وأكملت الزيارة بلقاء مع رئيس التحرير وحين سألته رأيه فى مقالاتى قال: أنا شخصيا أحب كتاباتك، وأرى أن اقتراب مقالاتك من القارئ أمر مطلوب، ثم أردف ملاطفا: عليك أن تستمر فى الكتابة معنا لدى الجريدة بأسلوبك التحليلى الساخر.

نظرت فى عينى رئيس التحرير ثم ألقيت نظرة ساهمة على صورة معلقة على الجدار أمامنا وبدأت استجمع أطراف الصورة من حولى، وجدتنى أكتب فى جريدة يسارية تدخل منافسه مع صحف أخرى وتشاركهم السائد بينهم من إثارة وتهييج، تلعب معى إدارتها أساليب تجميع وتفريق، من ليس من جماعتنا فهو علينا، وجدت مقالا لى لم يفهمه مسئول صفحة الرأى ومع ذلك تم نشره، ومقالا آخر يحمل رأيا مخالفا لرأى رئيس التحرير ومع ذلك تم نشره، فأصبح الأمر واضحا لى، وجدتنى أمام جريدة تلبس ثوب نشرات التهييج الحزبية، وأمام قيادات جريدة ترى أننى صالح للمساومة على طريقتى فى الكتابة.

إنى اعرف أنواعا من الكتابة المتواضعة وعشرات من مدعى الكتابة يتقيئون شهواتهم المتواضعة حروفا وكلمات تحاصر السذج من القراء، وأعرف انه من السهل جدا الاقتراب من القراء السذج بالتهييج والسطحية والمسخرة، مقال عن الحجاب، ومقال عن التوريث، ومقال عن الأقباط، ومقال عن النوبة، ومقال عن القمح المسرطن، وأخرى عن دخول أتباع الراقصات إلى مجالس الشعب والشورى وصالات التدين، أنا اعرف ولكنى أتناول كل هذه الموضوعات بأسلوب راقى بعيدا عن السذاجة أو السطحية أو الاستخفاف بالقارئ، أننى أبذل جهدا واحتشد للكتابة، أجمع أطراف الفكرة قاصدا أن أقدمها فى صياغة درامية جميلة لقراء يحتشدون بذائقة الجمال للقراءة، أنا اكتب لنوع رشيد من القراء.

هكذا جمعنى حب وود مع شخص رئيس التحرير، وفى الوقت المناسب تصافحت معه على باب مكتبه، هو يتمنى لى التوفيق فى مقالاتى القادمة بالجريدة وأنا قررت التوقف عن الكتابة لنفس الجريدة.

Saturday, September 06, 2008

حمام بالفريك

أحسن الطعام حمام محشو (بالفريك)، وأبسط التفاخر هو أنا من هناك وأنت لست من هناك، وأجمل الحواس أنوف تشم بالطريقة المناسبة.
فى ستينات القرن الماضى، كنا طلابا مغتربين للدراسة الجامعية، أنا طالب مغترب من المنصورة أسكن فى شقة متواضعة على حواف مدينة القاهرة مع طالب مغترب من سوهاج، كان لدينا خزانة لحفظ الطعام، خزانتنا (سبت) من البوص معلق فى سقف الشقة نحركه بحبل من ليف النخيل، فى قاع الخزانة نضع بعض الملح وما ندخره من نقود وفوقهم نضع العيش والجبن والطماطم والبيض المسلوق ونغطى الجميع بقطعة من القماش، هكذا يحمى السبت طعامنا من الصراصير والفئران، ويحمى الملح نقودنا من الحسد، ولأن أحدا منا لم يزر الآخر فى موطنه الأصلى أصبح التفاخر بالأنساب هو سلاحنا المعتاد نشهره فى وجه بعضا البعض كلما دخلنا معركة تنافس شرس.
فى يوم حار من مايو، عضنا فقر الخزانة وحرارة الجو وتوتر أيام الامتحانات ونقص النقود فخرجنا على طوع الزمالة ومارسنا التمييز، قلت له أنا من المنصورة، بلاد الخير والجمال ولدينا كثير من الطعام والنقود، فقال لى أنا من سوهاج، بلاد الخير والكرم ولدينا كثير من الطعام والنقود، وبدأنا معركة تنابز بالألقاب.
ولأن الصلح والتطبيع لا يأتيان صدفة، تصالحنا حين طرق بابنا ضيف رائع، انه خال زميلى قادم من سوهاج ويحمل لنا زيارة طعام تكفى إطفاء كل معاركنا، سبعة أزواج من الحمام المحشى بالفريك تغطيهم ثلاث فطائر بالسمن البلدى وجبن قديمة (بالمش) وبيض مسلوق.
حين تفحصنا محتويات الزيارة، اكتشفنا أنه طوال يوم كامل قضاها الخال فى السفر بالقطار من سوهاج إلى القاهرة، تحالفت حرارة الجو ودود المش وازدحام المواصلات لتحول الزيارة إلى فريك مهروس بجثث حمام وبيض مكسور وتتماوج حولها روائح فساد.
كان الجوع وغشم التفاخر وقلة النقود ونصائح الخال أسبابا كافية لأن تعمل حواسنا بالطريقة المناسبة وتصنع لحياتنا مذاقها الخاص، فخلال يومين كاملين ومع بعض المعالجات الحرارية أكلنا الزيارة كاملة، إلتهمنا ما كان حماما محشوا بالفريك وأصبح خليطا من فريك لاذع معجون بلحم فاسد، وظلت حواسنا تعمل بالطريقة نفسها، تصنع الرفض والقبول والصمت.
==============================
المقال نشر فى جريدة العربى الناصرى ، الأحد 7 سبتمبر2008م

Thursday, August 28, 2008

!!.. غلابة ترسة

يقول فصحاء العربية، أن الغلب ( بفتح الغين وكسر اللام) صفة لمن غلظ عنقه، فيكون الرجل أغلب وتكون المرأة غلباء، والجمع غلب ( بضم الغين وتسكين اللام)، وهو صفة للحديقة التى تكاثفت أشجارها والتفت، فيقولون حدائق غُلبا.

فصحاء العربية لم يكترثوا بالوقوف على أسباب غلظة العنق عند بعض الناس، فقد تكون الغلظة راجعة لتعنت ظالم انتفخت أوداجه وغلظ قلبه، يستبيح رقاب الضعفاء ضربا بالكفوف والنعال، يأكل حقوقهم ويسومهم سوء العذاب، تحشرج حناجرهم بالأنين، وتغلظ رقابهم بالأسى، يدفعون حزنهم فى قرب مقطوعة، ولا سامع لهم ولا مغيث.
يقول بسطاء المصريين عن الغلب ( بضم الغين وتسكين اللام) انه حالة إنسان شكلته طينة الأسى ليواجهه الحياة عاجزا قليل الحيلة، يدفع عن جسده عوامل الفقر المادى فلا تخور قواه، ويستجلب الثقة بنفسه فلا تنهار كرامته، ويصبح الفقير إنسانا داخل دائرة الغلب، ويكون الفقراء هم غلابة مستضعفين فى الأرض.

يقول أهل السواحل عن الترسة أنها نوع من السلاحف البحرية، يشيعون أن لجسدها خصائص فى جلب الحيوية للأجساد المنهكة، ويهيم بعضهم بشرب دمها والتغذى بلحمها، ويرى بعض أهل القرى والجبال أن فى عموم السلاحف أجزاء تصلح لعقد التعاويذ طردا للثعابين ودرءا للحسد وجلبا للذرية.

المعاصرون من أهل مدينة الجيزة اتخذوا من السلاحف عنوانا للصبر وطول التحمل، فأطلقوا اسم ترسة (أو ترسا) على شارع بمدينتهم مواز لشارع الهرم حيث الأهرامات والملاهى الليلية، ومواز لشارع الملك فيصل حيث المطاعم والمشاريع التجارية، وبرغم ذلك تقلصت الخدمات الحكومية فى شارع ترسة ليبقى مليئا بالغلابة والبيوت القديمة.

فى أخر شارع ترسة، على حافة ترعة المريوطية، دفع الغلب عشرات من العمال الفقراء، لأن يقضوا بقية لياليهم جثثا متراصة تنام على قارعة الطريق تحت الأضواء الخافتة لفوانيس الشارع، يرهقهم قيظ كل صيف ويصكهم برد كل شتاء، يتناوبون نعاسهم القلق فى بحار من مثيرات التناقض والأسى، فعلى مرأى من عيونهم المجهدة، تقبع أهرامات الجيزة والملاهى منكشفة ليلا بالأضواء والأصوات، وعلى مقربة من بطونهم الخاوية، تنتشر الفنادق والمطاعم والمقاهى يرتادها بعض المتخمين، ويشهد أبو الهول مزيدا من وقائع المعاناة لكثير من المصريين.

غلابة ترسة عمال تراحيل فقراء يتوافدون من القرى والنجوع البعيدة، هم فى مصرنا ألوف من الشباب والرجال، تغلظ البطالة فى ضرب أعناقهم، يملأون مناطق محددة من شوارع معروفة بكافة المدن، يرتدون أسمالا من الملابس الفقيرة، ينتعلون مراكيب ممزقة، يتراصون صباح كل يوم جثثا منهكة، يقوسها الجوع ويكمشها برد الشتاء، يمطها العطش ويقددها قيظ الصيف، يفترشون الأرض طلبا للعمل وبجوارهم أدوات صناعتهم، قطع حديد وفئوس وأزاميل وأخشاب وجلود من إطارات السيارات القديمة، يعرضون أنفسهم طوال اليوم للقيام بأعمال لا تحتاج إلى مهارات فنية متخصصة، ويتراصون مساء كل يوم جثثا منهكة، يلتحفون السماء فى نواصى الشوارع المظلمة، ويتغطون بالسقوف العارية داخل البنايات غير المكتملة، ينام معظمهم جلوس القرفصاء، تجنبا لرطوبة الأرض وتحسبا لمطاردة المتطفلين، ويتناوبن النعاس دفعات على الأرصفة فئة منهم تحرسها أخرى.

كلنا يرى الكثير من غلابة ترسة منتشرون فى معظم الشوارع دون قوانين تحميهم ظروف العمل العشوائى المؤقت، لا تتولى رعايتهم جمعيات أو نقابات ولا تسعى جهات متخصصة لإعادة تأهيلهم حرفيا ليمكن الاستفادة من جهودهم بدلا من تركهم عرضة لشغل السخرة وانتظار الإحسان من أصحاب البر.

غلابة ترسة هم مئات الألوف من قنابل البشر الموقوتة اجتماعيا واقتصاديا وأخلاقيا، غلظت رقاب كثير من المسئولين عن إدراك مشاكلهم، يحتاجون إلى بحوث علمية تدير أزمتهم وتبحث عن حلول لمشاكلهم قبل أن يفجعنا وقوع انفجار كبير.
=======================================
المقال نشر فى مجلة المصور المصرية ، الجمعة 29 أغسطس 2008م