Monday, May 26, 2008

بلاغ .. عن كتاباتى

منذ أكثر من عشر سنوات وأنا أكتب مقالات فى مجلات وصحف مصرية، وكتبت قليلا على مواقع عربية، صحيفة القدس العربى وموقع إيلاف الالكترونى وموقع المصريون، إلى الآن تجاوز عدد المقالات المنشورة باسمى أكثر من خمسمائة مقال بمعدل يقترب من مقال واحد أسبوعيا.

طوال هذه الفترة وجدت المقالات التى أرضى عنها لا تتجاوز المائتين وخمسين مقالا، جميعهم كتابات أفاخر بها نفسى لجمالها وجدة أفكارها، هكذا أنا راضى عن نصف أعمالى المنشورة خصوصا أن نصفها الآخر به مقالات خضعت لإعادة صياغة أو إعادة نشر، هذا الفارق بين ما ينشر من كتابات بإسمى وبين ما أرضى عنه منشورا يعود بعضه لقيود الصنعة والمهارات الحرفية المتاحة فى المطبخ الصحفى ويعود بعضه الآخر لقضايا الرقابة على النشر الصحفى ومشاكل حرية الرأى.

لأننى إنسان مصرى، مخلص لأرائى، جميل فى وجودى، بسيط فى معاملاتى، أحب مصر، أميل فى كتاباتى للأسلوب الأدبى، أحاول الابتعاد عن تسطيح الأفكار وسذاجة اللغة، بافتخار أمارس مهنة العمل أستاذا جامعيا، كل ذلك أبعدنى عن تعاطف التيار الغالب فى صناعة الجماعة الصحفية المصرية.

خلال سنوات من الكتابة أصابنى كثير من مشاكل النشر الصحفى، أجهد نفسى لأكتب مقالا متكاملا فأجد محررا فى صحيفة، ولأسبابه الخاصة، يفسد جهدى بالجور على مقالاتى فأتوقف عن الكتابة، هكذا واجهت بعض مقالاتى حذفا غير منطقى ونشرا دون توقع مثل صحيفة الأخبار، وحذفا حسب المساحة مثل صحيفة العربى الناصرى، واستبعادا حسب الهوى والإهمال مثل صحيفتا الوفد والدستور، وأصابنى الضجر من أسلوب كتابة تراتيل محفوظة للموتى مثل صحيفتا الأهرام والأهرام المسائى، وصدنى فقر عدد القراء بفقر أعداد التوزيع فوجدتنى أكتب لمئة قارئ على الأكثر مثل صحيفتا الأحرار ونهضة مصر، واستشعرت المطالبة بهتافات وشعارات لا أرضى عن أسلوب تناولها، مثل صحيفتا الأهالى والبديل.

كل ما نشرته من مقالات كان بدون مقابل مادى باستثناء ما نشرته فى صحيفة القاهرة برئاسة تحرير صلاح عيسى، وما نشرته فى مجلة الثقافة الجديدة برئاسة تحرير سامى خشبة، وهما مطبوعتان لوزارة الثقافة المصرية.

منذ عام ونصف تقريبا فى نهايات عام 2006م وجدت مخرجا رائعا للنشر، قررت أن اقيم مدونة على فضاء النت محاولا
الاستفادة من المزايا الجديدة للنشر الإلكترونى، واخترت اسما للمدونة يحمل كثيرا من صفاتى ككاتب أحاول طوال الوقت أن أنجو بحمامة أفكارى من تعسف الرقباء، هكذا اخترت اسم ( شوف الكلام ) عنوانا لمدونتى هنا وأعتبرها جريدتى الخاصة، أضع فيها بعضا من كتاباتى محافظا على نسق معرفى يرى فى المدونات نوعا حديثا من الصحافة.

المدونات باعتبارها صحافة حديثة تتيح لأصحابها أن تعبر كتاباتهم أكثر سرعة وآمانا نحو قرائها قافزة فوق حواجز جغرافية وبؤر اجتماعية وعوائق ثقافية، خصيصة العبور السريع والآمن هذه تجعل من المدونات الصادقة أداة فعالة لتحقيق كثير من أغراض الإعلام الراقي.

قناعتى بدور المدونات كصحافة حديثة جعلتنى أضع على مدونتى هنا ( شوف الكلام ) أراء أقتنع بها وأدافع عنها، لا أبنى أرائى على إسفاف أو غوغائية، لا أميل لمغازلة سلطة أو حزب سياسى أو جماعة عرقية، لا أسعى نحو قارئ بعينه، أنا اكتب ياسر العدل المصرى بما يحط عليه من أتراح وأفراح، وأغازل ياسر العدل المصرى بما يعانيه من آلام وآمال ووقائع حياة.

فى الأسابيع القليلة الماضية اتصل بى صحفيون، تحديدا فى موقعين إلكترونيين وصحيفة يومية، لأكتب مقالات لصحفهم، وبحديثهم معى اكتشفت أنهم يمارسون معى حساباتهم القديمة فى النشر الورقى ويتجاهلون ما يحققه فضاء النت من حرية ومنافع لأصحاب الأقلام الجادة.

الآن، هذا بلاغ لمن يهمهم الأمر، أنا أعرف أننى أكتب بأسلوب جميل تباطنه سخرية راقية، وأعرف أن قرائى ليسوا من السذج أو سابلة الطريق، أكتب على فضاء النت دون شروط فى مدونتى هذه
( شوف الكلام ) وأكتب دون شروط فى موقع (الحوار المتمدن )، وعليه فمن يريدنى أن أكتب مقالا خصيصا له فشروطى واضحة، عليه أن يلتزم معى بوقت محدد ومساحة محددة، وأن ينشر كتابتى دون تعديل، وأن يدفع مقابلا ماديا أراه أنا مناسبا، ومن لا يرضى بشروطى فيمكنه أن يأخذ ما يريد من كتاباتى المنشورة على فضاء النت شريطة الإشارة إلي باعتبارى صاحبا للنص.

Wednesday, May 21, 2008

دعوة للثقافة .. بشروط

مشكلتى مع الأنشطة الثقافية فى بلادنا أننى أعانى من عزلتها عن جمهور المستهلكين، فليس فعل الثقافة اختصاص للنخبة أو استعراض أمام الأصدقاء وبالطبع هى ليست المصدر الأوفر للثراء المادى، لذلك حين وصلتنى دعوة إعلامية عن بعض الندوات الثقافية بالمجلس الأعلى للثقافة بدار الأوبرا بالقاهرة، أجبت على الدعوة بالرد التالى:

الأخ المسؤول فى المجلس الأعلى للثقافة،
نحن الموقعين أدناه ، نشكركم على إعلامنا عن نشاطات المجلس الأعلى للثقافة فى مصر، ومع شكرنا تبقى فى الحلقوم كلمة ولكن،

نحيطكم علما بأن من يحضرون أنشطة المجلس ينتمون إلى واحدة من ثلاث مجموعات:

الأولى ، محظوظون يرمون بالكلمتين العسل على أسماع الحضور وفى النهاية ، وبعد التحقق من كلامهم وأخذ صورة بطاقة الرقم القومى ، يحصلون على مظروف بداخله بعض من دنانير الوالى

الثانية ، أصحاب المحظوظين من الأصدقاء والجيران وأولاد الحلال الساعين فى تسميع الناس بفضل أصدقائهم وحظوتهم بالجلوس فى قاعات مكيفة وكراسى أحيانا وثيرة

الثالثة، أناس ليس لهم أحد فى المجلس، يهربون من الزوجات والعيال وسخف وسائل الإعلام وغلاسات صبية المقاهى ، ويطمعون فى نسمات هواء وكلمتين حلوين فى قاعات المجلس قاصدين أن يرفعوا قدراتهم على الصبر واحتمال سخافات الجميع

نسيت أن أذكر أن هناك مجموعة رابعة مستقلة عن باقى المجموعات، مجموعة البصاصين والعسس وأكلى لقمة القاضى والعاسولج وبعضا من طعام الفرنجة والعجم

الأخ المسؤول فى المجلس الأعلى للثقافة
أنا الذى هو عضو فى مجموعة من ليس لهم أحد فى المجلس
فى كل مرة أقترب بسيارتى من بوابة حرم المجلس ينظر لى حارس البوابة نظرة إرهاب كأننى قاتل أبيه الوحيد ويتبعه موظف ملتزم يمسك بدفتر يلم بموجبه الخراج ، يصر الحارس والملتزم على أن أدفع لهما رسوم ما يسمونه - الباركنج .. سعادتك يا باشا –

وعلى الفور يبدأ الفصال، هما يتلصصان وأنا أغمغم وأرغى متهربا من نقود الخراج قاصدا ساحة الباركنج، ألقى بابتسامة فوقية للحارس وأدعى للملتزم قاصدا ومتمنيا - أنا مباحث أمن دولة صحفى وداخل المجلس فى طلب الباشا-

أحيانا تنجح خطة التمويه وأفلت منهما تدفعنى تطويحة يد من الملتزم إهمالا لشأنى ويتهامس مع صاحبه – اتركه يغور .. الغلاسة ظاهرة عليه-

هكذا أحضر القليل جدا من ندوات المجلس، وغالبا ما ينكشف حالى من الادعاء فتتصلب أرائهم عند وضعى أمام اختبار صعب، أقارن بين تكلفة الدخول إلى المجلس وبين تكلفة شراء كتاب، غالبا تنتصر المقارنة لصالح الكتاب الذى لا أشتريه، ويصبح لائقا أن أنسحب كسيف البال وأعود للزوجة والأولاد دون ندوات بالمرة، هكذا تكون الغلبة للفقر والفقراء ويبقون بعيدا عن نشاطاتكم
الأخ المسؤول فى المجلس الأعلى للثقافة، الله يرضى عليك

نرجوك، كلم لنا الناس الكبار لينزلوا بالندوات الى الشارع ، أو على الأقل كلم لنا الباشا صاحب الكارته ليتوقف عن أخذ الثلاثة جنيهات رسم الدخول على الواحدة من سيارات وعربات رواد الندوات - وثق انه لن يتعب فى التعرف على أمثالنا من الغلابة الشارعين فى الثقافة، عرباتنا أكفان بسيطة يركبها عدد مهدود من الأصدقاء فى الثقافة غير القادرين على السير او ركوب الحافلات او ملاطفة سائقى التاكسى، ان عملية فرزنا بسيطة، الغلب واضح على سحناتنا وأنت عارف أن الثقافة فى بلادنا لا تسمن ولا تغنى من جوع
التوقيع
هذا الكتاب مهره لجنابكم ياسر العدل، واحد ليس له أحد فى المجلس

Wednesday, May 14, 2008

أنا عاوز أتجوز

دروب حياتى الرائعة أوصلتنى إلى علاقة أقمتها مع نصف صديق، أحيانا أمارس معه علاقة نصف صديق وأحيانا أمارس معه علاقة نصف عدو، انه موظف حكومى يقاربنى سنا ومن أهل حَيٍنا، لقيته على عربة الفول المدمس الرابضة على أول شارع بيتنا العامر، على مدى شهور من اضطهاد زوجاتنا وطردنا خارج البيوت دون إفطار تناولت مع هذا الموظف عشرات من أطباق الفول مع البصل والباذنجان المخلل والخبز البلدى وقصص الثورة وفلسطين والمرتبات وفساد الأنظمة، هكذا اجتمعت فى هذا الموظف كآبة جميلة تجسدت فى ملامح نصف صديق ونصف عدو.

صباح أمس وعلى ناصية الشارع التالى لبيتنا العامر لقيت هذا النصف صديق هامًا بالسير متجها إلى عربة الفول كى يحصل على مكانة المفضل على طرفها الأيمن الغربى فى مواجهة شمس الصباح وبجوار وعاء البصل الناشف والفلفل الأخضر، مشية نصف الصديق لا تخفى بعض آلام الساقين ومشيتى لا تخفى بعض آلام الظهر والكتفين، وحين لحقت به أخبرته بأننى بدأت منذ يومين فقط العام الواحد والستين من عمرى المديد، عندها جاملنى بمجاملة باردة:
- كل سنه وإنت طيب يا باشا.
كان واضحا أن الصورة تتطلب أن أبدو سعيدا بمناسبة عيد ميلادى العظيم، لذلك أكدت لنصف الصديق إننى أرجو لكل إنسان كل الصحة وطول العمر وأن تمر أيامنا على خير، ثم أردفت مجاملا:
- وإنت بألف خير وسعادة.
انتبه نصف الصديق فجأة على أننى مشروع صديق له، وأننى أخبرته بحدث ميلادى العظيم، وأن شهر ميلادى ضم كثيرا من حوادث ميلاد مفزعة لزعماء وأفاقين وعلماء وصالحين وبعض الراقصات، فأبطأ الخطى واستدار نحوى ليظهر بعضا من الكرم والبشاشة تجاهى، طوح بكفه اليسرى يهز بعضا من وسطه ويخرق بإصبعه الوسطى هواء الكون المحيط بنا وقال :
- أرجو لك أن تصل للثمانين يا باشا . . هه هه
نظر لى الموظف الحكومى نصف الصديق بعين متوجسة كمن يتحسس صلاحيتى للحياة أصلا، وبانت حركاته أمامى حركات نصف عدو، فشهقت نصف هواء العالم ازفره فى وجهه، وحين شعر بأنفاسى تتحرك قال متهكما:
- يقولون الدهن فى العتاقى!!
أومأت برأسى مؤكدا له صدق المقولة ثم بسطت كفى اليمنى وعلقت على طبقة صوتى نبرة تحدى فاجعة وقلت:
- طبعا يا باشا . . الحمد لله الصحة تمام.
اقترب نصف الصديق منى وحط عينه فى عينى ووضع يده اليسرى على خصره ثم مال بأذنه نحوى، كنصف عدو قاصدا الاستماع إلى سر خطير، وتسائل بصوت واطئ:
- قصدى الصحة . . . تمام التمام !!
لم يترك لى فرصة للرد على تسائله بل أسرع يهز بعضا من وسطه ويطرح كفيه ورسغيه خلفا ويهز صدره كراقصه شعبية فى مولد عشوائى، ثم لوح بقبضه يده اليمنى وغمز بعينه اليسرى قائلا بصوت عال:
- تمام التمام؟ . . يا باشا !!
التقطت أنفاسى من متابعة حركاته وأجبته مؤكدا :
- تمام التمام ، وعاوز أتجوز.
صوب عينيه داخل عينى ووضع سبابته مشيرا إلى وجهى ثم مط وجهه وتسائل مستنكرا:
- إنت عاوز تتجوز؟
قلت له واثقا وكل وجهى ابتسامات تنم على التحدى:
- آه . . عاوز أتجوز . . بالعربى طالب زواج
انتظر برهة هز فيها جزءا من أسفل وسطه ثم أدار إصبعه تجاه شحمة أذنه متراجعا برأسه للخلف وابتسم ابتسامه خبيثة ويتلاعب باصبعه الوسطى ثم قال:
- قل لى بصراحة !! . . إنت عاوز تتجوز؟ . . وإلا انت عاوز تتجوز؟.
فى هذا الصباح الرائع نظرت للوحة كاملة رسمتها الحياة أمام عينى، نصف الصديق تتقاطع أجزاءه فى حركات مع الطريق والسيارات والبشر ويتناثر فى اللوحة ضوء الشمس والإضرابات وأخبار الجميلات وارتفاع الأسعار وصحراء الملوك وأزمة الغذاء العالمى وخطوات وئيدة لحمار صغير يسير بجوار حمار كبير ويجران معا عربة لجمع مخلفات البيوت، وتلتقى علاقات اللوحة عند أول الشارع حيث عربة الفول المدمس، فجأة تحوطتنى نظرات نصف الصديق وانثناءات خصره وتهكماته فقررت أن أرفع عقيرتى بمجون الواثق قائلا:
              - آه .. عاوز أتجوز.
نظر نصف الصديق إلى عينى وانفتح فمه عن ابتسامات تتشفى بمعرفة الأسرار قائلا:
- يا لــئيم.
توقفنا عن الكلام والابتسام ولم يجهد أحدنا الأخر فى تفسير ما هو المقصود باللؤم بيننا، وانطلقنا متجاورين لنصل إلى عربة فول المدمس، وصلنا متأخرين فلم يصب نصف الصديق موقعة المفضل على العربة، وحالت آلام الروماتيزم فى أصابعى بينى وبين كسر فحل البصل براحة بيدى، وتناول نصف الصديق طبق الفول المدمس خاليا من الشطة لإصابته بقرحة المعدة، هكذا تناولنا إفطارنا الشهى وسط جبل متوهج من النكات الفاضحة للأخلاق عن الرؤساء والخبزوالحكومات والفول والحمير وأهل الشمال وأهل الجنوب والنساء اللائى يمارسن الدلال على كل هؤلاء، وفى النهاية حبسنا طعامنا فى قلب المعدة بكوبين من الشاى المغلى.
حين تأكدت من اختفاء نصف الصديق عن ناظرى، أصابنى إحساس فاضل بحرية الكلام والحلم فانطلقت فى الشوارع مبتسما وضاحكا وضاجا وهازا كتفى وصدرى وكثيرا من أجزاء جسدى أبحث عن مشاريع الأصدقاء وبعض الأعداء لأطرح عليهم سؤالى العبقرى ذو الشطرين:
- إنت عاوز تتجوز؟ . . وإلا إنت عاوز تتجوز؟
ودون أن اترك لأحد فرصة للإجابة على الشطرالأول أو حتى التفكير فى الشطر الثانى أباغت المسئول بمحاولة الالتفاف حوله لأضع أصبعى الوسطى فى جنبه وأدغدغه قائلا:
- يا لئــيم.

Monday, May 12, 2008

انهم يأكلون سذاجة

وصلنى على البريد الالكترونى نشرة صحفية من موقع عربى يحاول أن يبنى مكانا للمعرفة العلمية بين قراء العربية، تقول النشرة الصحفية ما نصه ( مجلة ألمانية: الصلاة تضبط ضغط الدم ) وأرفق محرر النشرة صورة لرجل فى حالة سجود إسلامى، محاولا بالصورة أن يربط ربطا ساذجا وتعسفيا بين إنصلاح أحوال ضغط الدم وبين القيام بالصلاة فى طقسها الإسلامي، وكان لا بد أن أرد فى تعليق كتبته على الموقع لكن المحرر لم ينشر التعليق، ولأن الأمر جد مزعج وخطير على مستقبلنا الحضارى حين يسرى هذا التوجه المنهجى المتخلف فى إرشادنا وتعليمنا ، فإننى أضع هنا ذلك التعليق مع بعض التصرف قاصدا إبراز الفكرة الرئيسة:

عزيزى المحرر فى هذه الموسوعة العلمية، حرام عليك هذا التسطيح المتعمد لتأثير بعض الطقوس الدينية، المؤمنون يقبلون دينهم كحزمة واحدة من الطقوس تتضمن أعمالا وعبادات دون انتقاء، المؤمنون يؤدون طقوسهم الدينية لأنها عبادة فيها سيد يأمر وعبد يطيع، وليس لأن لها فوائد صحية أو اقتصادية أو أن القيام بها يترتب عليه أعباء وعذابات وكفارات عن ذنوب، المؤمنون يقومون بحزمة طقوسهم الدينية لأنها تنهاهم عن الفحشاء والمنكر والبغى وليس لأنها تصلح الظهر أو تقوى السمع أو ترفع الباه، هكذا يتناول المؤمنون تعاليم الدين وطقوسه.

عزيزى المحرر إن الصورة المصاحبة لنشرتكم هى لرجل يصلى صلاة إسلامية، بينما المجلة التى تقول إنها أوردت الخبر هى ألمانية، وكذلك الإحصاءات المؤيدة لرأيك تم إجراؤها مع أفراد أمريكان فى كنيسة إنجيلية ، هكذا لا صاحب الخبر ولا صاحب البحث بمسلمين ، إن صلاة ونسك أصحابك تختلف عن مثيلتها لدى المسلمين، وعليه فبأى دليل موضوعى تدافع أنت عن رأيك، أى صلاه تقصد أنت فى نشرتك حين تصفها بأنها تضبط ضغط الدم ، أتقصد الصلاة الإسلامية أم المسيحية أم اليهودية أم اللادينية ، وأخيرا الإحصاءات نفسها تقول أن عملية ضبط ضغط الدم هى أكثر إمكانية وتأثيرا مع أصحاب التقدم العلمى سواء أكانوا مؤمنين أو ملحدين.

يا أخى المحرر كفانا هذا الهراء والتخلف فى عرض المعلومات ، كفانا هراء يبثه قوم متخلفون لا يستطيعون اللحاق بالعلم والحضارة، كان أجدى بموسوعتك أن تصوغ الخبر بأسلوب علمى هكذا: ( الهدوء النفسى المصاحب للأيمان يساعد على تحسين ضغط الدم، أجريت إحصائيات على بعض المتدينين فكانت النتائج كذا وكذا)، صياغة الخبر على هذه الطريقة يترك فرصة لعقل القارئ كى لا يتوقف عند النصوص ويقارن ويفكر ويصل إلى قناعات ربما تعارض ما تريده أنت من مصادرات.

عزيزى المحرر نداء التحضر يدعوكم أن تبتعدوا عن هذا الهراء ولا تسردوا وقائع انتقائية تظهرونها وكأنها معجزات فوق مستوى البشر وهى ليست كذلك، إن ما تعرضونه على موقعكم بمثل هذه الشاكلة يتحول الى أوهام بالقداسة تعشش فى مخيلتكم فقط ، انتم تحاولون إنشاء موسوعة علمية أو هكذا أراها، فكونوا موضوعيين فى جمع معلوماتكم محايدين فى عرضها، ذلك بأن العلم نسبى يبنى على فروض ويقبل النتائج المترتبة عليها، العلم قائم على الجدل والحوار بين الفروض والنتائج ، هكذا ما يثبته العلم اليوم فى أغلبية قد ينفيه غدا فى أقلية أو يحمل له معنى مغاير، ولأن الحياة متسعة أحداثها ووقائعها فتعال معنا أيها المحرر إلى كلمة سواء هى منهج علمى يعلم يكشف ما استغلق علينا فهمه، كن جميلا موضوعيا لا تصادر على المعرفة بمقدساتك.
أخيرا أيها المحرر صاحب الموسوعة العلمية على النهج الآعلامى السائد، أنت لست وحيدا أو واحدا فى توجهاتك نحو تسطيح العقل العربى، نشاطك هو العملة الغالبة فى الإعلام العربى، فهناك أفاقون كثيرون يمارسون نفس وقائع التخلف الفكرى، بعضهم يقول بمعجزات فى بول الناقة وشخُة اليتيم وغائط المحروم، وأسماء وآيات على أنصاف حبات الطماطم والبلح والأشجار وفصوص أمخاخهم المشردة بين الأسطورة والخرافة، وبعضهم يقول أن من يذكر الورد الصغير لشيخهم الكبير تسعة وتسعين مرة يوميا تأتيه حور العين والطواشى على أرائك تجرى من تحتها نهر حليب وعسل لذة للشاربين، إنهم يقولون بالمعجزات تتناثر فى مقدساتنا قاصدين أن ينهوا الناس ويلهوهم عن الإمساك بأسباب العلم

Friday, May 09, 2008

أولاد الـــًعم تــاج

كان العم تاج رجلا صاحب منهج، يؤمن بأن الحياة توهب للبهائم والبشر، لا فضل لأحد فيما هو عليه من صلاح أو فساد، متعة الحياة لا توهب لغير أذكياء يدقون الطبول وراء كل زامر، وأن الموت يخلع الأحياء من عالم ملئ بالحركة يدافعون فيه عن وجودهم ويدسهم فى عالم أخر مفعم بالسكون، وأن الموتى لا يتركون غير ذكرى يلوكها بعض الورثة وأصحاب المصالح، هكذا ظل عم تاج يطلق منهجه على الأحياء والأصدقاء والأعداء، فى القرية يلعب بالبيضة والحجر وفى المدينة يلعب بالثلاث ورقات.

كان العم تاج رجلا صاحب واجب، فى المآتم يخلع على الميت صفات الأبطال والأولياء الصالحين، بأن المرحوم كان ديمقراطيا ليبراليا ثوريا ومصلحا كبيرا، وحين تزمجر عيون السامعين فاضحة الإسراف فى خلع الصفات، يكتفى العم تاج بتنقيط الدعوات للميت والإسراف فى تناول لحوم الفراخ تقدم على صوانى الميت، وفى الأفراح يشيد العم تاج بثراء العريس، يصف العريس بأمير غنى لا يأكل الملوخية الشيطانى تنمو فى الأرض صدفة، وإنما يزرع الأمير كل ما يأكله عامدا فى براح أرضه، وحين يضج الناس من فشوش الكلام يكتفى العم تاج بتنقيط العريس بكلمات من فخار مقابل أن يتناول أكوابا من الشربات والحلوى تقدم على صوانى العريس.

كان العم تاج رجلا صاحب سخرية، فى المآتم يعرف كيف يستمطر الدعوات من المعزين على ميت تناولت الألسنة كثيرا من سيرته، كان الميت لصا نجح ذات ليلة فى سحب بقرة خارج زريبتها، وحين ربت على ظهرها نعرت البقرة بصوت جهور تطلب الوصال بأى ثور، فاستيقظ أهل الدار وطاردوا اللص فى الليل والأزقة، نجحت المطاردة وعادت البقرة لزريبتها تلعق هموم الانتظار، وافلت اللص ليموت فى الأسبوع التالى مهموما محسورا، وظل العم تاج ينثر حكمته بين المعزين وأصحاب الواجب أن اقتناء البقر يفضح الرجال والثيران.

كان العم تاج رجلا صاحب سخرية، فى الأفراح يعرف كيف يستمطر مصمصات الأسى على عريس فى يوم دخلته، يسرب أخبارا بأن نفرا من الشياطين ربطوا العريس وجعلوه ضعيفا غير قادر على المتعة أو الإنجاب، وحين يطول انتظار الأهل والجيران لأخبار اللقاء بين العروسين، ينثر العم تاج حكمته بين الجميع أن فك المربوط يتم بإهدار كثير من رقاب الديوك والهداهد والغربان والبخور والزواج مرة أخرى من أرملة أو مطلقة خبير.

كان العم تاج محبا للحياة، يجيد الكلام الساكت والتلويح بالأمانى المرجأة، وحين اختطفه الموت مبكرا دون أن يقضى عامه السابع والثمانين، أجمع حافظوا الأنساب على أنه أنجب عشرات الآلاف من المحاضرين والكتاب يبيعون مجروش الكلام فى الأندية والقصور والفنادق، يصرفون بدلات حضور الجلسات، ويتجملون أمام عدسات التصوير.

ذات مساء وعلى بساط الإعلان عن التنمية ، كان الطقس الحار كافيا لأن يسترخى عشرات من الناس على شاطئ حمام سباحة فى نادى رياضى فى مدينة جديدة ، وكانت هزائم نوادى الكرة كافية لأن يتوقف كثير من المشجعين عن تشغيل المخ وعصر الدماغ، وأمسى الوقت والناس والمدينة جاهزين لمتابعة مكلمة ثقافية تلعب بالثلاث ورقات.

جلس ابن العم تاج على منصة يحاضر الناس عن المقاومة والانتماء، امسك بالميكروفون وانساب منفردا، لولا مجانية التعليم لما أصبح ابن العم تاج حرا غنيا مستورا، وما استطعنا نحن الكارهين أو حتى المحبين للعم تاج أن نبدى رأينا الحر فى أحداث بلاد الخارج، ذلك بأن حريتنا رآها ابن العم تاج منحة من زعيمنا الثورى الديمقراطى الذى مات، وقبل أن ينهى ابن العم تاج جرعة كلامه، نازعه ابن آخر للعم تاج يملك محلات للتجارة بالداخل، مؤكدا أننا شعب قادر على المقاومة، مقاومتنا رآها ابن العم تاج أنها فضل من زعيمنا الليبرالى الديمقراطى الذى مات، وحين احتدم النقاش بين الحضور أعلن ابن عاشر للعم تاج يعمل بدون جنسية فى بلاد الخارج، أننا شعب يمارس الانتماء، انتمائنا يراه ابن العم تاج صنعة زعيمنا المؤمن الديمقراطى الذى مات، وظل مجروش الكلام يتقاذف بين الحضور دون أن يتعرض أحد من أولاد العم تاج لحاضرنا وكأن الحاضرين موتى لا يشعرون ولا يعرفون خصائص الوقار والعصمة تتناثر حول تاريخ العم تاج، وحين توقف الجميع عن الاستماع، تسائل شاب نابه عن اقرب قسم شرطة يخدم الحضور ويفك اشتباك الجميع.

تسربت بعض الجميلات يضحكن ويتناوشن، وحين طلب أحدهم أن ابدى رأيى فى التنمية والمقاومة والانتماء، كنت وما زلت مقتنعا بأن فك المربوط عن الحرية والمتعة والنماء يتم بإهدار كثير من رقاب الخطباء والمحاضرين، وان الانتماء الجميل لا يتم بغير الزواج من بنات أفكار تغازل الحرية.

Friday, May 02, 2008

علاوات .. للرشوة والدعاء

فى شهر يوليو من كل عام يفيض خرج الحكومة المصرية بعلاوات نقدية تمنح لأكثر من خمسة ملايين موظف مصرى وترفع مرتباتهم بجنيهات قليلة، بعض الأصدقاء أكد لى - وهو كاذب - أن العلاوة كبيرة هذا العام.

أنا واحد من موظفى حكومة مصر، أتقاضى مرتبا هزيلا لا يكفى مواجهة أعباء حياتى اليومية، مرتبى يدربنى على الدخول فى زمرة العصاميين، أستعين بالصبر والشكوى والنميمة على تحمل قلة قيمة نقودى فى سوق الحياة، وأتجرع هوان أمرى على السلطات، أدفع نقودا وضرائب وهبات ورشاوى للمحليات والدولة والشركات والتجار، ادفع ثمن الطعام واللباس لأبنى الأكبر الذى تخرج متفوقا من جامعة الحكومة ولا يجد عملا لدى الحكومة، وأدفع للولد الثانى ثمن الهاتف المحمول وبعض علب السجائر التى تدسهم فى وجدانه إعلانات فاسدة يتواطأ عليها إعلام الحكومة، وادفع للولد الثالث ثمن الدروس الخصوصية فى مدارس الحكومة وقيمة الأدوية فى العلاج المجانى فى مستشفيات الحكومة، المصيبة أننى أدفع تلك النقود مجبرا بموجب عقود إذعان تفرضها على سلطات الأهل والجيران والحكومة، أدفع نقودا أكثر مقابل خدمات أقل، ومع ذلك الإذعان والتعسف لا أحصل على صفات العميل الجيد أو الأب الحنون أو المواطن الصالح.
ولأننى مازلت موظفا حكوميا مصريا اعمل تحت وطأة ستين ألف قانون تفسرها لوائح مطاطة متضاربة تسمح باختراق كل القوانين، لذلك أدور حول حقى المهضوم أخذه من المحليات والدولة والشركات والتجار والأولاد، هكذا تقرر الإحصاءات أننى موظف أعمل فى المتوسط ثلاثين دقيقة كل يوم، وانفق ما تبقى من يومى فى طوابير العيش ووسائل المواصلات والعراك مع الجيران، ولا أعرف طريقا ميسورا للعمل المنتج، ذلك بأن رئيسى فى العمل يتم تعينه بناء على علاقته بأهل السلطة، لا يملك أدوات موضوعية لتقييم أدائى ويصدر أحكامه الوظيفية بناء على معايير شخصية ترسمها مصالحة الخاصة، لذلك أسعى كل يوم للحصول على أموال وهبات ورشاوى, وحين يتحرك ضميرى ببعض الألم، أجد فى وعاء الثقافة المجتمعية السائدة ما تزكية الحكومة من أمثال وحكم تبرر أفعالى، ثقافة ترى أن أمور الحساب لن تقف عندى، فطالما أن أحدا لا يهتم باستيفاء حقوقى فلا أحد يهتم بمتابعة واجباتى، صحيح أن الغلابة يهدرون بمعاناتهم بعضا من الموارد، لكن الكبار فى بلادنا بمكرهم يأكلون كثيرا من الموارد، يهبرون أموالا بالملايين ويغسلون أموالهم فى دمائنا، عيونهم فاجرة تندب فيها ألف رصاصة دون أن يهتز لهم طرف، هكذا الغلابة فى بلادنا يبقون غلابة، ولا يملكون غير الدمع عند كل حاقة ومظلمة.
برغم أننى موظف حكومة مصرى أعانى ضعف الإدارة وإجحاف الحكومة وعجز القوانين عن تحقيق قدر معقول من العدالة، إلا أننى فى لحظة صفاء يمكننى أن استعيد قدراتى على التفكير الموضوعى، وأطرح سؤالا عاما، ماذا يحدث لو قررت الحكومة مضاعفة مرتبات العاملين بالدولة خمس مرات؟، هل سترتفع الكفاءة الإنسانية والاقتصادية لظروف العمل فى بلادنا؟ الإجابة بالنفى وسيظل حالنا كما هو عليه، نعانى من تخلف وظيفى وتسيب إدارى، ذلك لأن زيادة المرتبات وحدها دون تغيير ببقية عناصر نظامنا الوظيفى تجعلنا ندور فى حلقة مفرغة من التخلف، دائرة زيادة المرتبات وزيادة الفقر، وبمعنى أخر حين ترفع الحكومة المرتبات دون أن تسعى لإصلاح النظام الإدارى والاقتصادى فإنها تسعى دعائيا لأن تعيد رسم الصورة بمقياس رسم جديد يبدو مبهرا للبسطاء والسذج، دون أن تغير الزوايا أو العلاقات فى مكونات الصورة، هكذا يظل فقرنا الاقتصادى والأخلاقى والاجتماعى، جاثما على الصدور.
القيمة الحقيقية لزيادة للمرتبات تقاس بالقيمة العلمية لتغيير العلاقات الوظيفية، باعتبارها علاقات ديمقراطية أو استبدادية، وباعتبارها علاقات عادلة أو غير عادلة، وباعتبارها علاقات موضوعية عامة تحدد طرقا علمية لتقييم الكفاءة وإصلاح الأخطاء أو علاقات ذاتية تحمل الطموحات الشخصية لبضعة أفراد فى التملك والسيطرة، فحين يزيد مرتب موظف بألف جنيه ويزيد مرتب رئيسه بعشرة آلاف جنيه دون أن يصاحب ذلك تقدم فى بيئة العمل الحكومى، فمعنى ذلك أن الحكومة لا تتعامل بموضوعية مع مشاكل الموظفين، ترفع قدر أهل الثقة فوق قدر أهل الكفاءة، أنها حكومة تدرب شعبها على الشحاذة، تدفع لغالبية موظفيها علاوات فقر وشهادات ذل، وتدفع لبعض موظفيها رواتب تفيض عليهم وعلى أتباعهم من خدم وحشم وحراسات خاصة، إنها سياسات وظيفية تزيد التضخم وترفع الأسعار وتفتح لأهل الهوى مزيدا من أبواب الفساد.

Thursday, May 01, 2008

رجل غُراب .. وخُف جمل

حين أسرفت أمى فى ملأ دارنا بالبخور والدخان والأحجية تطارد الحسود صاحب العين الصفراء، بقيت أنا طوال حياتى أطارد وجوها كالحة، تقطع الخميرة من كل دار، توقف اللقمة فى كل زور، تقتل صفو المحبين والعاشقين والساعين فى كل خير، ومرت حولى حوادث مفجعة دون أن أعرف بالضبط من هو صاحب العين الصفراء.

ذات مرة أعجبتنى فتاة غزال طيبة رقيقة المشاعر، وحين أدمنت النظر إليها تزوجتنى، وما زالت طوال الخمس وعشرين سنة الماضية على جوازنا تندب حظ زواجها العاثر وتبحث عن صاحب العين الصفراء كى تقطع جثته أربا، وذات مرة أعجبتنى صحة رئيسى فى العمل، يرقص على كل حبل دون أن يقع، وحين أدمنت النظر إليه أصابه العجز وضغط الدم وغباء الإدارة، وظل سنوات ممسكا بمنصبه يسرف فى العطايا كى يرفت صاحب العين الصفراء.
وحين جمعتنى صداقة مع الصحفى (محمد الشافعى) بدار الهلال، وأصبح لائقا أن نقاوم نكد الزوجات وقرف العيال، اتجهنا فى زيارة إلى منطقة رأس سدر بمحافظة جنوب سيناء، قاصدين زيارة نفر من عرب سيناء صنعوا بطولات مقاومة ضد العدو أثناء حرب أكتوبر المجيدة، نزور مجاهدين منحتهم الدولة وسام الاستحقاق من الطبقة الأولى، منهم سليم مضعان وفرج وأخوه فريج مساعيد.

على الشاطئ الغربى لقناة السويس وقفت طارحا بصرى نحو الرمال الصفراء فى الشرق مسترجعا تاريخ بلادنا مع الأرض والناس والجبال باتساع كل الأفق، فى الزمن القديم كانت سيناء أرض تيه عبرها فاتحون ورسل وغزاة وتجار مخدرات، وفى الزمن الحديث عادت بعد جهد جهيد ليرى فيها المخلصون أنها أرض فيروز نرسم عليها خطوات تقدمنا نحو المستقبل.
حين اجتاحنا الشوق للعبور نحو أرض الفيروز رصدتنا عين صفراء، دفعنا رسوما لتعبر سيارتنا نفق الشهيد أحمد حمدى تحت قناة السويس وندخل سيناء، هكذا هاجت فى الذاكرة حواجز صنعتها حكومات متتالية للفصل بين سيناء وبين بقية أرض مصر، ففى عهود مضت لم يكن لمصرى أن يدخل سيناء دون تصريحات تصدرها جهات أمنية، واليوم أصبح دخول سيناء ميسورا لكل من يدفع رسوم عبور، ربما هى موارد تستخدم فى صيانة النفق، ولكنها أموال يدفعها المواطنون لأجهزة دولة تكريس التفرقة النفسية بين بقاع الوطن الواحد.
وضعنا الرحال فى بيت من بطون آل مضعان فى منطقة رأس سدر، جلسنا فى بيت شعر يملكه مضيفنا، خيمة كبيرة من الصوف يتوسطها موقد فحم كبير يصنع الشاى والقهوة العربية يقدمها صاحب الدار للجميع، أتى غدائنا لحم ضان وأرز يملأن صينية كبيرة، وبدأ نظام تناول الطعام، الضيوف أول من يأكل، يمد الجميع أصابع أيديهم اليمنى، تنزل خاوية كرجل غراب على الطعام، تنزع اللحم وتكوره فى الأرز وتصعد مليئة كخف جمل، تدس حملها فى أفواه رجال لا يتكلمون أثناء الطعام، يأكلون قليلا ويخفون سراعا، ويأتى دور صاحب البيت يأكل من باقى طعام ضيوفه وما يفيض يذهب لأهل البيت من أطفال ونساء، هكذا تعريف أحد مظاهر الكرم فى بيئة جافة شحيحة الموارد.
وحين شعرت بالامتنان لكرم الضيافة ونحافة الرجال كانت العين الصفراء تترصدنا قاصدة أن تفسد متعتنا، هاجم المطر بيت الشعر فتماسك الصوف بالبلل ومنع الماء من النزول فوقنا، وهاجمت السيول أرجاء المنطقة وكادت أن تقطع طريق عودتنا، مياه غزيرة يلقى بها المطر على الجبال تتجمع وتأخذ طريقها فى مخرات سيول تلقى بحملها على الوديان تدمر فى طريقها كل زرع وضرع وتتجه نحو البحر.
اكتملت فى ذهنى صورة لكوارث طبيعية تحل بالمكان، وتوقعت أن يبحث الناس عن غريب صاحب العين الصفراء كى يلقوا به فى شقوق الجبال، لكن القوم استبشروا خيرا بقدومنا، ذلك بأن جفافا لحق أرضهم طوال السبع سنوات الماضية شارف على للرحيل، ورأوا فينا ضيوفا تحل معهم البركة ويعرفون أصحاب القرار فى العاصمة ويصاحبون من يعيد لسيناء بهائها كجزء من ارض مصر، وحين غمرنا ذلك السيل الجارف من المودة اكتشفت أن عينى ليست صفراء تماما، فكيف لعين أن تحسد أناسا بسطاء طيبين؟ يعيشون حياة جافة غُلبا، يعانون من مشاكل الإدارة والاقتصاد فى الدولة المركزية، حيث تتكاثر الخدمات فى العاصمة وتقل فى الأطراف.
سيناء أرض الفيروز والفحم والبترول والتاريخ، هى كذلك فى الطبيعة لكنها ارض عذاب تقع على أطراف مصر، تحتاج إلى عين رعاية فى مجالات الصحة والتعليم والنشاط الاقتصادى ليسكنها بشر أصحاء يصنعون تقدما حضاريا على أرض مصر، تقدما لا تبقى معه أرض سيناء مجرد بؤر سياحية يسترخى فيها بعض الأغنياء على ما يهبرونه منها فى خف جمل ويتلظى فيها الفقراء على ما ينتجه جفافها من نبش الغراب.