Tuesday, February 23, 2010

حنطور الثانوية


الثانوية العامة فى بلادنا نظام تعليم متخلف ومجهد، إنها عربة حنطور تجرها كل عام مئات من الخيل المثخنة بالجراح يلهث وراءها مئات الألوف من الطلاب، وفى كل عام ترصد بيوتنا احتفالات بائسة لنتائج امتحانات مزورة، فالكثير من طلابنا يحصلون على الدرجات النهائية فى امتحانات الثانوية العامة ومع ذلك يفشلون دراسيا فى مرحلة التعليم الجامعى.

بعض المحللين يرون أن ارتفاع درجات الطلاب هو نتيجة جهد المسئولين فى تطبيق سياسة تحقيق التفوق الدراسى لجميع الطلاب بغض النظر عن قدراتهم الفردية، مثل هذه السياسة لا تفرق بين الأغنياء والفقراء، فأبناء الأغنياء المدللون بضاعة جاهزة نفسيا للتصدير إلى دول المهجر، وهم مرشحون للعمل عبيدا فى كفالة نظم حضارية متقدمة تسلب انتماءهم القومى، وأبناء الفقراء المحبطون هم بضاعة جاهزة نفسيا لتجرع أعباء البطالة، إنهم صالحون للعمل عبيدا فى كفالة نظم حضارية متخلفة تميت كل فكر مستنير.

سياسة التفوق للجميع مصدرها نظرية تربوية ترى أن التفوق العلمى حاجة حضارية للطلاب والمعلمين ولباقى أفراد المجتمع، وتطبيق هذه السياسة يعتمد على وجود دولة قوية تتمتع بإمكانيات اقتصادية واجتماعية وثقافية، وبنظرة فاحصة لواقعنا نجد أن إمكانياتنا ضعيفة، لدينا مئات من المدارس غير صالحة لتطبيق العمليات التعليمية الحديثة، ولدينا عشرات الآلاف من المعلمين يتداولون الدروس الخصوصية، ومؤسساتنا التعليمية يحركها عائد الكسب المادى دون اكتراث بالعائد الاجتماعى، هكذا يصبح تطبيق سياسة التفوق للجميع مجرد حرث فى البحر.

الراصد المحايد لواقعنا الاجتماعى يلاحظ أن قيمنا الاجتماعية السائدة تحكمها روح القبيلة، تسعى لأن يظل الفقير الضعيف عبدا للغنى القوى، وأن يدلس القوى على تابعيه من الضعفاء، لذلك يتبارى الآباء الحقيقيون فى المنازل ويتبارى الآباء الاعتباريون فى هيئات التعليم على استخدام سلطاتهم تجاه الطلاب، يحددون لهم طبيعة ما يدرسون من علوم ومناهج، وينشرون بينهم التدليس والتدليس، هكذا تتحول نقيصة الغش فى الامتحانات إلى كرم واجب يمنحه الآباء والأساتذة للطلاب، وهكذا تكون حصيلتنا السنوية مئات الألوف من طلاب علم مزورون ومدلسون.

لن ينقذنا غير ثورة حقيقية على نظمنا الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الحالية، ثورة ترعى توجهاتنا القومية وتجعل من نتائج الثانوية العامة مؤشرا حقيقيا للفوارق الفردية بين الطلاب، هكذا يمكن أن يتوقف نظام الثانوية العامة عن ضخ أعداد هائلة من طلاب أنصاف أميين إلى الجامعة يزداد بهم مجتمعنا انحشارا بالملايين من مدلسين وجهلة يمارسون كل عام الابتهاج بأفراح ساذجة لتفوق مصطنع.

المقال نشر فى جريدة نهضة مصر - الثلاثاء 23 فبراير 2010م

Wednesday, February 17, 2010

سيناء .. لحن الأسى

فى إجازة عمل اصطحبت صديقا وحشرنا سيارتنا القديمة بتجهيزات رحلة فقيرة، بصل وسكر وشاى وفسيخ مع أربعين رغيفا وجركن ماء كبير، واتجهنا فى رحلة قاصدين زيارة أصدقاء لنا يعيشون فى صحراء التيه، أرض سيناء.

اتجهنا إلى نفق الشهيد أحمد حمدى تحت قناة السويس، كان علينا أن ندفع رسوما للعبور إلى أرض سيناء، وحين مددت يدى بالرسوم أعطيها للموظف المختص هاجت فى ذاكرتى حواجز تصنعها حكومات متتالية للفصل بين سيناء وبين بقية مناطق مصر، ففى عهود مضت لم يكن لمصرى أن يدخل سيناء دون موافقات تصدرها جهات أمنية، واليوم أصبح الأمر أكثر تعنتا نفسيا حين تفرض الحكومة رسوما للعبور إلى سيناء، تضغط بها على ذاكرتنا الجماعية بفواصل مقصودة تمزق بقاع الوطن الواحد.

بعد عبور النفق قطعنا حوالى مائة وخمسين كيلومتر على طريق إسفلتى حتى وصلنا إلى أصدقائنا فى مدينة نخل عاصمة وسط صحراء سيناء، حيث يعيش حوالى خمسة آلاف نسمة من السكان بينهم موظفون قادمون من أنحاء مصر.

البدو من أهل وسط سيناء يعيشون حياة جافة غلبا، تنقصهم الكثير من الخدمات فى مجالات الصحة والتعليم والنشاط الاقتصادى، يحيط بهم فقر التجهيزات المادية والبشرية، وتلفهم وقائع الأمية والفقر والأمراض.

الأكثر غلبا من البدو هم الموظفون الحكوميون، حياتهم مأساة حقيقية، يعانون نقصا فى الماء والمواصلات والسكن ووسائل الترفيه، حياتهم صعبة لا تشفع فيها الزيادة النسبية فى مرتباتهم التى قد تصل إلى ثلاثة أمثال مرتبات زملائهم فى وادى النيل، ولا تسلم أسرهم من آثار سلبية لنظام عمل يقوم على بقاء الموظف بعيدا عن أهله معظم أيام الشهر، ثمانية عشر يوما متصلة مقابل اثنتى عشر يوما إجازة كل شهر، إنهم موظفون يقضون معظم حياتهم فى صحراء دون قدرة على تغيير المكان أو العلاقات الاجتماعية.

إن بقاء وسط سيناء على وضعها الحالى يصنع ظروفا موضوعية لانتشار الانحرافات بين السكان وبين موظفى الحكومة، بين الإنسان وبين البيئة، يصنع متطرفين عقائديا ومنحرفين فى نشاطهم الاقتصادى، يصنع مرضى معزولين مؤقتا فى سجن واسع الأرجاء.

سيناء أرض الفيروز والفحم والبترول والتيه، تحتاج إلى إمكانيات مادية وجهود علمية ليسكنها بشر أصحاء نفسيا وبدنيا واجتماعيا يصنعون تقدما حضاريا على أرض مصر، لا أن تبقى أرض تيه نعزف عليها لحن أسى، تتناثر على وجهها بؤر سياحية يستجم فيها كثير من محدثى النعمة وقليل من الصالحين.

المقال نشر فى جريدة نهضة مصر – الثلاثاء 16 فبراير 2010م

Tuesday, February 16, 2010

إلى وزراء التعليم


هذا العام دخلت طابور القائمين بالتدريس فى التعليم المفتوح، كان نصيبى هو التدريس لطلاب فى السنة الأولى الجامعية، إنهم خليط من صغار السن الحاصلين على الثانوية العامة بدرجات متدنية يدرسون مع طلاب كبار السن من موظفى حكومة وعاطلين وعوانس.

مع بداية كل فصل دراسى يتم تداول عرف غير مكتوب لمن يشملهم نظام التعليم المفتوح، الجامعة تتولى تجهيز الأماكن وإدارة النظام لتحصل على نصيبها من كعكة أموال يدفعها طلاب فى التعليم الخاص، أساتذة الجامعة يقومون بالتدريس لزيادة دخولهم وتصريف كتبهم القديمة، والطلاب ضعاف علميا تربوا على الغش والتدليس وتتبارى جهات التعليم فى رشوتهم بتزوير النجاح، أولياء الأمور يدفعون أموالا اقل مما يدفعونه للمعاهد الخاصة ليحصل أبنائهم على شهادات غير ملاحقة بتهمة التزوير الورقى، وكله محصل بعضه، هكذا تدور العجلة فى نظام التعليم المفتوح.

فى الفصل الدراسى المنقضى قمت بتدريس مبادئ الرياضيات، استعنت بنصائح أهل الدار القدامى، فاحتوى الكتاب المقرر منهجا دراسيا تم تدريس معظمه من قبل فى المرحلة الثانوية مع إضافات قليلة، أثناء التدريس اكتشفت أن كثيرا من الطلاب لا يعرفون مبادئ الحساب ويعانون من ضعف فى القراءة والكتابة فقمت بتبسيط المقرر وتكرار الشرح معتمدا على مقولة أن التكرار يعلم الشطار، وفى نهاية الفصل الدراسى وضعنا امتحان يكاد أن يكون نقلا من الأمثلة المحلولة فى المحاضرات وعلى صفحات الكتاب المقرر، هكذا توافقت مع السياسات التنفيذية للتعليم المفتوح.

حين تلقيت أوراق الإجابة فوجئت بنتائج غير متوقعة وحادة فى تطرفها، عدد قليل جدا من الطلاب حصل على الدرجات النهائية، وغالبية عظمى حصلت على أصفار حين قدمت أوراقا بيضاء أو نقلت الأسئلة دون إجابة أو كتبت رسائل وشكاوى اجتماعية، وتضاءلت النتائج الوسيطة، ولو تم تطبيق العدالة فى التصحيح فان نسبة نجاح الطلاب لا تزيد عن عشرة فى المئة.

إن ما حدث من انهيار فى نتائج الامتحان يرجع إلى سببين، أولهما اختلاط حديثى الثانوية العامة مع قدامى الخريجين دون تجانس فى القدرات بين الطلاب، وثانيهما وهو الأخطر أن مجتمعنا العلمى تسود فيه ثقافة الغش والتدليس والتزوير، فمعظم الطلاب يدخلون الامتحان وفى تصورهم أن نجاحهم دون جهد هو حق مرصود يكفله واقع التعليم فى مجتمعنا من الابتدائى إلى الدكتوراه.

بعض المدلسين فى إدارات التعليم المفتوح يرفعون نسب النجاح على غير الواقع، يطرحون حججا تجارية منها الحفاظ على الطلاب فلا يهربون للجامعات الأخرى أو المعاهد الخاصة، وحججا غير أخلاقية منها تقديم العلف للثور فى المكان الذى يربطه فيه صاحبه.

الأمر خطير وجاد، فنظام التعليم المفتوح بوضعه الحالى يمثل كارثة تحتاج معالجتها إلى مناشدة جميع المخلصين باعتبارهم وزراء مسئولون عن حال التعليم فى بلادنا أيا كانت طبيعته، مفتوح للتدليس أو مغلق على الفساد.

Tuesday, February 09, 2010

إنهم مزورون

حجج كثيرة تصاحبها أخلاقيات متواضعة، تدفع بعض أعضاء هيئة التدريس بالجامعات إلى التدليس والتزوير ليتمكنوا من الإعارة للعمل فى الخارج، هكذا يشترون عقودا مزورة تقضى بأن أزواجهم يعملون فى دول أجنبية، ويحصلون بها على الإعارة المرجوة متكئين على الوجوب القانونى لمرافقة الزوج لزوجه حين الإعارة الخارجية، بعضهم حصل على عقد مزور لزوجته بالعمل فى ليبيا وقدم هذا العقد للجهات الإدارية وبتدليس واضح تمت إعارته للعمل فى السعودية، هكذا ينتشر التعريض بالأخلاق مع التزوير فى الأقسام العلمية وإدارات الجامعات، ويصبح لدينا جيل من أعضاء هيئة التدريس يجدون المبررات لممارسة التدليس والتزوير وتواضع الأخلاق.

المدة القانونية بدون تزوير للإعارة الخارجية لا تتجاوز ست سنوات، هى سنوات كافية جدا لتحقيق التوازن بين الحاجات الشخصية والمصالح القومية، وهى لا ترضى طماعا يمارس التزوير والتدليس ويتدرب أخلاقيا على أن يعيش فى غربة دول عربية باعتباره عبداُ رقيقاً تحكمه نظم استرقاق وكفالة، لا يستطيع أن يكون حراً ولا يسعى لأن يكون حراً، انه يتدرب على أن يكون انتهازيا أخلاقيا ومتخلفا ثقافيا.

مع التزوير القانونى والأخلاقى تجاوز بعض المعارين المدد القانونية فقضى أكثر من عشر سنوات يعمل فى الخارج، إنها تجاوزات استوجبت على بعض رؤساء الجامعات من النابهين أن يرفضوا عودة المتجاوزين إلى وضعهم القديم بجامعاتهم الأصلية، ولأن المتجاوزين انتهازيون فإنهم رفعوا قضايا إدارية يطالبون فيها باستعادة وضعهم الوظيفى وكيانهم العلمى، بل ويطالبون بمراتب إدارية عليا كرؤساء أقسام علمية وعمداء كليات.

هناك أحكام صدرت لصالح هذا الصنف من المعارين، تقضى بعودتهم إلى أعمالهم باعتبار أنهم يخضعون لقانون الموظفين المدنيين بالدولة، لكن إذا اعتبرنا خصوصية الصفة العلمية والأخلاقية لعضو هيئة التدريس بالجامعة فنحن لا نرى مبررا موضوعيا أو أخلاقيا لصدور تلك الأحكام القضائية المجافية لروح المشرع النابه، فالجميع يرى قرائن وشواهد موضوعية تشى بالتزوير والتلاعب من موظفين ارتضوا التخلى عن دورهم الثقافى والأخلاقى.

صحيح أن قرار عضو هيئة التدريس الجامعى بالسفر للعمل بالخارج هو قرار فردي يتخذه لأسبابه الخاصة، لكنه قرار يمس الهيكل العلمى والأخلاقى للعاملين بالجامعات بما يمثله عضو هيئة التدريس المعار من خصوصية علمية وثقافية تؤثر فى المجتمع.

ليس صحيحا أن المعارين المزورين والمتجاوزين لروح القانون اكتسبوا مهارات ثقافية وحضارية من دول الإعارة، الصحيح إنهم كانوا قبل الإعارة أعضاء هيئة تدريس بجامعاتنا، وبعد الإعارة عادوا ليكرسوا فى بلادنا فساداً ثقافيا وتخلفا حضارياً.
المقال نشر فى جريدة نهضة مصر- الثلاثاء 9 فبراير 2010م

Monday, February 08, 2010

مهرجون فى الجامعة


حين أصبح الزميل رئيسا، قرر أن يحتفى بنا فى مكتبه الجديد، وضع أمامنا علبة كبيرة مليئة بقطع من الشيكولاته الفخمة وأخرى مليئة بخبز أهل البندر من بقسماط وباتون ساليه، وعلى مقربة وقف عامل تم انتقاءه بعناية ليقدم المشروبات المعتبرة، لم تكن خبرتى القروية كافية لتساعدنى فى تطبيق بروتوكولات تناول حلويات المنصب الجديد، لكن خبرتى مع المخصصات المالية لكبار الموظفين تكفى لأن أزيد راتبى بطريقة جديدة، هكذا انطلقت يدى اليسرى تلتقط من الشيكولاته واحدة إلى فمى واثنتين إلى جيبى الأيمن وواحدة إلى جيبى الأيسر وانشغلت يدى اليمنى بتوزيع قطع أخرى على فمى وعلى زملاء الجلسة.

تناولت فنجان قهوة محوجة يكفى لإثارة انتباه عشرة من جنود الأتراك العثملية، فانتبهت لقول رئيسنا الجديد بأننا بحاجة لنشاط ثقافى يحرك الراكد فى نفوسنا نحن أعضاء هيئة التدريس بالجامعات، نشاط نطور به أنفسنا ونساعد طلابنا على ملامسة الواقع المتحضر، هكذا قرأت ورقة مشروع رئيسنا الجديد لإثارة الوعى الثقافى المأمول، انه مشروع يتضمن عقد ندوات ثقافية يقوم بها محاضرون يمتلئ بهم إعلامنا الرسمى.

واقع المجتمع المصرى يرصد أن غالبية بيوت مصر بها واحد على الأقل يصنع الرأى من آباء وإخوة، انه صانع رأى اشتغل أو يشتغل أو يسعى للشغل فى دول غربة يعتمد اقتصادها على ريع وكفالة وعبيد، ويعتمد فكرها على مصادرات وإيمان أعمى، هكذا أصبحت الغالبية العظمى من الطلاب وأعضاء هيئة التدريس بالجامعات المصرية يستقون ثقافتهم وطموحاتهم من خارج الحدود، يؤمنون بأخلاقية نظم الكفالة والسخرة وتغيير الهدوم والذقون والنقاب والإعجاز العلمى فى الأديان.

واقع الجامعات يرصد أن من يسمح لهم بإقامة ندوات ثقافية داخل الجامعة هم من يرضى عنهم نظام الأمن الجامعى بما يحمله من بيروقراطية إدارية وتحجر فكرى وضمور سياسى، وسلطات نظام الأمن السياسى فى الجامعة فى وضع محددات النشاط الثقافى هى أعلى من سلطات قياداتها الفكرية، هكذا فى عصر الانحطاط الفكرى والجمود السياسى يدخل الجامعة مهرجون يروجون لفكرة الإعجاز العلمى فى الكتب المقدسة، يحاضرون دون احترام لمنهج علمى، وهم فاعلون ما يفعله المتعصبون السذج من أتباع كل دين، فى مثل ذلك العصر يدخل الجامعة من يحترفون بالتواطؤ احتلال مقاعد الرغى فى كل مناسبة ويتنطعون على كل شاشة عرض، يقدمون خرافات عقلية وكوارث أخلاقية.

يقولون فى علوم الإدارة أن القيادات الوسيطة، مثلها مثل الطبقات الاقتصادية الوسيطة، تحافظ على النظام وتسعى لجموده، وبمرور الوقت تعمل ذاكرة القيادات الوسيطة بالقصور الذاتى دون رغبة فى تغيير أو طموح نحو ابتكار، ويصبح أمر التغيير قاصرا على طرفين متباعدين، قيادات عليا تنظر للمستقبل من خلال خطط وبرامج فوقية، وجموع من ذيل القائمة فى السلم الوظيفى يرفضون الواقع من خلال انفلات ومبادرات فردية.

حين طلب رئيسى الجديد المشاركة فى تنفيذ خطته الثقافية، مع بقاء الظروف المحيطة به كما هى، مجرد قيادة وسيطة تعمل وسط حصار أمنى، كانت كمية الشيكولاته المخلوطة بالقهوة المحوجة قد رفعت الحموضة فى معدتى فضاقت إمكانياتى فى التفكير الموضوعى، هكذا أقنعت نفسى بأن لكل غربال شدة، وقررت الخروج مسرعا لألحق بمكتب زميل آخر يحتفل بترقية جديدة، زميل ليس لديه سلطة ثقافية ويعدنا بأطباق من لحم وثريد لا تتعب المعدة.

Tuesday, February 02, 2010

مزاد علنى



كان أبى يؤمن أن الحياة أعطته خيرات كثيرة، زوجة وفدان أرض وفرن خبيز، ودارا من الطين تعجّ ساحتها ببنين وبنات وحمارا ودجاجا وبطّا وحماما وأرانب، كان أبى حريصا على تعطيل مبررات الحسد لدى الأهل والجيران، فجعل من جلبابه وسرواله جيوبا يخفى فيها كل ما يجلبه لنا من لحم وبلح رطب وحبات برتقال، وكانت أمى تجيد قراءة علامات الجوع على وجوه صغارها من الأطفال والفراخ، وتتحسّس فى الجميع ملامح السّعادة كلما عاد أبى منتفخ الجلباب، وكنا نعرف أن الحياة لنا، نحن المتكاتفين من أهل القرى.

فى طفولتى المبكّرة، كثيرا ما صارعت الدواجن فى وسط دارنا من أجل الحفاظ على لقيمات خبز ممسوسة بالسّكر تعوّدت أمى أن تلقيها فى حجرى، أحيانا كنت أنجح فى التهام الفتات مختلطا بالتراب وما علق به من أفواه المهاجمين، وأحيانا ينجح المهاجمون فى اغتصاب طعامى ونقر جسدى فى أماكن العفّة فيعلو بكائى، كانت حركة أفواه الأرانب تحوّل بكائى إلى ضحكات وحبور، من يومها عرفت مطاردة الدّجاج وكراهية البطّ وحُب للأرانب.

فى طفولتى المتأخرة، حملت سبات البوص محشوة بالخبز الحاف والجبن القريش والبيض المسلوق، أنتقل من قرية إلى مدينة، أدرس الكتب وأحفظ النصوص فى ضوء الشمس ووهج الكهرباء وبصيص لمبات الكيروسين، وحين توطنت البلهارسيا فى أجسادنا، أصبح لأطفال حارتنا بطولات خاصة يكسبها كل من يتبول قطرات أكثر من الدم.

فى شبابى تصالحت مع البلهارسيا والأنيميا وصديد البول، ودخلت الجامعة أدرس الاقتصاد والبورصات والقانون والمحاسبة، وحصلت على الدكتوراه فى إحصاء الناس والأرزاق، وشغلت بالدكتوراه منصبا جامعيا، مؤمنا بأن بلدى هى كل مصر.

فى شيخوختى عرفت أن مصرنا ثلاثة أمصار، أولها مصر البلد، حيث أعيش ويدبّ الناس من حولى فى حياة فقر وطلوع رّوح، وفيها دكتوراه العلم لا تطعم خبزاً أو سكّر، وثانيها مصر المحطة، حيث يعيش متعددو الولاء، يمتصون الدّماء ويتلصصون سعيا للهروب خارج كل وطن، وثالثها مصر الكَفُر، حيث يعيش المماليك الجدد فى قصور مشيدة، يتاجرون فى القيم والأقوات، تتحجر قلوبهم على كراسى الحكم دون إيمان بوطن، لا يعنيهم حال أهل مصر البلد ولا يرون أهل مصر المحطة.

أيها العظماء من أهل مصر المحطّة أو مصر الكَفر، فتح المزاد، إنى أبيعكم دكتوراه صناعة بلدى، سأعطي المشترى الورقة واللقب، وأعطيه من تاريخى قصصا باهرة تزيد عظَمَته، مقابل أن أضطجع على سُرر مفروشة فى جنان من نخيل وأعناب، وأقيم مباخراً من الطّيب لدرُء كل حسد.

المقال نشر فى جريدة نهضة مصر - الثلاثاء 2 فبراير 2010م