Tuesday, September 30, 2008

!! حادثة اشتباه


الحب لا يأتى صدفة، انه يولد ويعيش بالادارة البارعة، انها سلسلة من الملاطفات المناسبة والخوف المبرر والمؤامرات الصغيرة.

فى صباح اليوم الثانى من الأسبوع المناسب، تأكدت أن أولادنا ذهبوا جميعا لأشغالهم، وأن زميلى فى العمل نجح فى تسليك اجازة لى من فم رئيسنا المباشر، وأن بقايا مرتب الشهر تكفى خمسة أيام قادمة، وأن شمسا هادئة تضم شقتنا فى دفئ لذيذ، عندها قررت الجلوس فى الشرفة مع زوجتى الطيبة نتناول كوبين من الشاى بالنعناع نرشف معهما جرعات وصل ورضا، وحين أضاءت شمس الشرفة بهاء زوجتى, رأيت أن شاى الأرض ونعناعها لا يفيان بمتطلبات الوصال بين الأحبة وقررت النزول فورا متواثبا فوق سلالم العمارة لأشترى زجاجة مياه غازية، مؤكدا لنفسى أن العاشق الكبير لا يشرب إلا من عبوات كبيرة.

فى محل البقالة ظهرت الزجاجة كبيرة مليئة بمياه غازية باردة، وحين تماوجت أساريرى تغازل الظلال حول الزجاجة ابتسم صديقى البائع وغمز بعينه اليسرى وأعطانيها فى كيس مزركش مع قطعتين من اللبان الدّكر، عدت أدراجى إلى الشرفة حاملا الكيس المزركش واللبان الدّكر ووضعتهم حانيا أمام زوجتى بجوار كوبين فخيمين من زجاج لامع، وبدلال العاشقين فتحت الكيس وسحبت الزجاجة متمهلا شمسنا الهادئة كى تشهد عواطفى الكبيرة.

لم تكن الشمس هادئة تماما فقررت أن تسلط ضوئها على جلستنا، بدت الزجاجة محكمة الإغلاق لكن لون مياهها الغازية مختلف، فجأة ظهر بداخلها كتلة من جسد حيوانى غير واضحة الملامح، ليست جثة صرصار فإنها أكبر كثيرا، وليست جثة حمار فإنها أصغر كثيرا، ربما هى بقايا جثة كلب أو أن أحدهم قتل غريمه ووزع جثته على مئات من الزجاجات المشابهة، وحين أعلنت حدسى أن الجثة بقايا فأر رضيع، صرخت زوجتى وهاجمها القىء وتركتنى وحيدا فى شرفة الأنس، وأصبح على التوقف عن تصور المزيد من الجثث وأن أحمل الزجاجة غاضبا لأعيدها للبائع.

ساومت البائع على استرداد ثمن الزجاجة وتنابزنا بالألقاب، تدخل بعض الطامحين من الجيران وساومونى على اقتسام أموال سأكسبها من رفع دعوى قضائية على منتج يستهين بأرواح المواطنين ويبيع جثثا فى المياه الغازية، وحين تكاثرت الحكايات والنصائح تحولت الزجاجة عندى الى كنز مرتقب، يسدد ديونى ويشترى بيوتا وعمارات ويخلصنى من نكد زوجتى المخبوء، وبدأت التفكير فى اقتناص طرق الثراء.

الأفضل أن أذهب بالزجاجة لإبلاغ الشرطة وأحصل على تعويض، فرأيتنى سأقف فى طابور من يشكون إهمال جمعيات رعاية المستهلك ويشككون فى نزاهة رجال الصناعة، وسيطول انتظارى فأشعر بالتعب وتقع الزجاجة على الأرض وتتهشم ويضيع دليل الجريمة، هكذا تقبض الشرطة على بتهمة إزعاج السلطات، إذن لا داع للذهاب إلى الشرطة.

الأفضل أن أعطى الزجاجة لمحام شاطر يلعب فى المحاكم بالبيضة والحجر، وأحصل على تعويض، فرأيت المحامى سيطلب منى مقدم أتعاب ويقنعنى بأن القضية خاسرة ويقبض التعويض بالملايين ويبلع حقوقى، إذن لا داع للاستعانة بمحامى.

كان اختيارى أن أبقى حالما فقررت كتابة مقال صحفى عام، أطالب فيه جمعيات رعاية المستهلك والشرطة والمحامين والصحافة أن يهبوا من أجل صحة وكرامة المواطنين، لأعاود الجلوس هانئا مع زوجتى الطيبة، نرشف أباريق من الكركديه والشاى بالنعناع ونمضغ أطنانا من اللبان الدكر.

Sunday, September 28, 2008

تعليم بير السلم

ملايين من المصريين، ينضمون لسوق العمل الحكومى أو الخاص بمؤهلات غير جامعية، يعانون من فساد نظام إدارى وثقافى فى الدولة يعطيهم تواضعا فى المرتبات والترقيات والمعاشات والتفاخر الاجتماعى، هكذا أصبح لدى بعضهم رغبة فى الحصول على شهادات جامعية تحسن واقعهم المهنى والنفسى والاقتصادى.

مع التخطيط يرى خبراء التعليم أهمية التعليم المفتوح، انه إضافة ثقافية ومهنية لنوع من الطلاب لهم ظروفهم الخاصة، لكن مع التنفيذ فى قاعات الدرس يرى رجال التعليم أن سلوك طلاب التعليم المفتوح أبعد عن سلوك طلاب العلم واقرب إلى سلوك شحاذين يطلبون أوراقا مختومة بشهادات تحسن من وجاهتهم الاجتماعية وترفع بعضا من معاشاتهم، أنهم صيد ثمين يجب الثراء على حسابه.

فى أول محاضرة ألقيتها على طلاب من التعليم المفتوح، ظهرت الصورة واضحة أمامى، معظمهم أباء وأمهات وأصحاب بيوت لديهم إمكانياتهم فكرية وثقافية متواضعة، يملكون تصورات إنسانية جميلة عن شهادات علمية يسعون إليها، يتحملون مشقة التعليم فى جو فاسد ثقافيا واجتماعيا واقتصاديا، فى قاعات الدرس يبررون كسلهم الطلابى بأعباء مهامهم الوظيفية، وفى أعمالهم يبررون كسلهم الوظيفى بأعباء مهامهم الطلابية.

منذ البداية قررت أن أكون أستاذا يحاضر طلاب علم يرون أن طلب العلم جهد إنسانى شريف لا تصلح معه سلوكيات الشحاذة والغش وإبداء الأعذار، فاظهروا تعاطفهم مع موقفى، وحين منعت طالبة أتت متأخرة من دخول المحاضرة انهارت وبكت، وحين لمت طالبا على عدم التزامه بأصول المناقشة العلمية غضب وانزوى، ومع الانهيار والغضب ظهرت دلائل خداع وتدليس يمارسه كثير من أساتذة التعليم فى جامعاتنا حين قال بعضهم لى : ارحم طلبة التعليم المفتوح وارحمنا معهم، إنهم مصدر رزق لنا، إنهم مرضى اجتماعيا ومتخلفون ثقافيا، يدفعون نفقات الدراسة كاملة ليشحذوا بها شهادات علمية، وعلينا أن نعطيهم شهادات بأقل جهد ممكن ودون إحراز تفوق، هكذا نتخلص منهم ولا يطرقوا علينا أبواب الدراسات العليا.

قضية التعليم المفتوح فى بلادنا تشبه فى كثير من الأمور قضية التعليم الخاص فى مدارس بئر السلم والشقق المفروشة، إنها قضية تعليم طلاب يتناولون بداية الأمور بحسن نية ثم يتنازعون نهاية رغباتهم مع تجار علم فاسدين، هكذا يجنى المجتمع شهادات علمية مضروبة بالتدليس، ويتاجر المسئولون بأرقام صورية للمتعلمين.

المقال نشر فى جريدة العربى الناصرى - الأحد 28 سبتمبر 2008م

Monday, September 22, 2008

رقصة ماجنة


كان جدى الأكبر رأس عائلتنا مرددا للشعائر وموزعا للبركات ومطربا عند الضرورة، يهفو على الأجران عند كل حصاد، يسقط على المآتم عند انتهاء كل أجل، يحترف تفصيل الأحجية وصَرّ الدّعاء وربط الأزواج وتسهيل الولادة.


ذاع صيت جدى الأكبر وانتشرت أسفاره يجوب القرى والكفور، يمتطى حماراّ وبطانة من المساعدين، ابن العم وكيلا عنه وحاملا عصا خيزران يهمز بها الحمار، والابن الوحيد متدرباً ووارثا شرعيا للمهنة، وابن الخال حافظا للأسرار وهاربا من فلاحة الأراضى.


فى ضحى يوم حار من أيام قحط، طوّفَ بالقرية خبر عاجل بأن عظيما مات فى قرية مجاورة، فتواثب ابن العم يهرول تحت الشمس عابرا القنوات والحقول قاصدا بيت الميت، يقدم للورثة والتابعين عروضا مغرية، كثير من الأدعية والشهرة مقابل قليل من النقود وطعام كثير اللحم والدهن، كان قحط البطانة وطموح الورثة كفيلين بنجاح المفاوضات وإبرام التعاقد.


مع حلول وقت العصر، امتطى جدى الأكبر حماره وانطلق فى موكبه يثير غبارا وأصواتا عابرا القنوات والحقول قاصدا دار الميت العظيم، ووضع بن العم خطة استبعاد جدى الأكبر بعيدا عن تناول أى لحم,


انفرد ابن العم بأهل الميت ليخبرهم أن الشيخ أصابه توعك مفاجئ لا يصلحه غير تناول خبز مفتوت فى اللبن مع السكر، فالتزم أهل الميت بتقديم طلبات وكيل الشيخ، وحين امتلأت البطون وكفّت الأفواه عن البلع، وتناثر اللبن على الذقن، انحشر رأس جدى الأكبر بتفاصيل خطة مناسبة لاغتيال ابن العم.


مع دخول الليل افتتح جدى الأكبر مراسم حفل المأتم، يقرأ ما تيسر من نصوص خالدة ونحنحات مرصوصة، وحين هاجمت رائحة اللحم خياشيمه قرر أن يترك ابنه الوحيد ليستكمل دوره فى المأتم، وأفل راجعا إلى داره مصطحبا الحمار وابن العم وابن الخال وخطة الاغتيال.


على طريق العودة تعمد جدى الأكبر أن يستريح ركبه بجوار ساقية مهجورة، وحين تأكد أن النجوم زاهية ترسل ضوئها الخافت بما يكفل له تنفيذ فعل ما دون أن تكشف لأحد تمام ذلك الفعل، أعلن رأيه صائحا للجميع : اللحم علاج لكل توعك، وهجم بكلتا يديه على رقبة ابن العم دافعا جسده إلى بئر الساقية، حين اقترب جدى الأكبر من حافة البئر تدخل ابن الخال ونهق الحمار وبدأ الجميع رقصة ماجنة.


هكذا انهارت أنسابنا ولم يبق من عائلتنا غير أربعة أشخاص، ولدى الوحيد وريث حرفتى، وابن عمى وكيل أعمالى، وابن خالتى حافظ أسرارى، وأنا الذى أعانى من جهل الآخرين بتاريخ جدى العظيم.


Sunday, September 14, 2008

حوادث تصادم

حين أصبحت الشمس شمس عصارى، درت حول سيارتى بوقار تشوبه روح غندرة شبابية، أراجع صلاحية السيارة وتمام شكلها وأتحسس انطباع الآخرين بالانبهار.

ألقيت جسدى على مقعد السيارة متحسسا أجهزة الانطلاق ثم أرسلت نظرات متتابعة أتفحص وجوه المحيطين من البشر، ألقى عليهم علامات ابتسام وعبوس وغزل وتعال، وحين أحصيت فى الوجوه عدداً مناسبا من التحيّات والسلامات وعلامات الوداع، أدرت جهاز التكييف وشرعت فى التحكم بأجهزة القيادة، وانبريت أقود السيارة متباطئا ومتسابقا ومناورا، أقطع طريق الإسفلت بين الأشجار نحو مدينتى البعيدة.

باغتتنى بين جموع المودعين ابتسامة رقيقة لفتاة بدا جمالها طاغيا، فرأيت أن أهدى الجميلة قيادة رائعة، تداعب فيها ريح العصارى سيارتى، وتصدح معها أنغام لأم كلثوم فى صالون قيادتى، ويهفو وجدانى للقاء كل الجميلات، وظللت أتهادى.
مرقت بجوارى سيارة تركبها امرأة شابة يشاكس شعرها الطويل هواء الطريق، فرأيت أصابعى فى الزمن القديم تربت على كتف زوجتى وتسرق لمسات لشعرها الطويل، ثم تعاود الإمساك بحبات الترمس والفول وزجاجات المشروبات الغازية، نأكل ونشرب ونضحك ونصنع أحاديث العصارى على شاطئ النيل، وظلت الموسيقى تنساب فى السيارة.

فجأة لمحت خلفى سيارة جيب فخمة تأكل الإسفلت مسرعة نحوى، كان الفارق كبيرا بين سرعة سيارتى الحالمة وسرعة الجيب المتفاخرة، خرجت من أخيلتى لأبتعد عن طريق الجيب وهى تتابع مناوراتها فى تخطى سيارة أخرى تسير فى رعونة، فجأة انحرفت سيارة الجيب إلى أقصى يمين الطريق واندفعت إلى حقل قطن مجاور، انقلبت الجيب مرتين ثم استقرت على ظهرها، وبدأت عجلاتها تدور فى الهواء، وفرت السيارة الأخرى.

اتخذت جانب الطريق مبطئا سرعتى لأستكمل رؤية المنظر، أخذت السيارات تواصل سيرها وتوقف بعضها للفرجة، وحين فكرت فى التوقف، تذكرت كراهيتى لضابط شرطة أجبرنى على تغيير طفاية حريق السيارة رغم صلاحيتها، ورأيت أن من يملكون سيارات فارهة هم لصوص يستطيعون العلاج فى الخارج، وأننا بحاجة إلى تطبيق قوانين غير موجودة ونطبق قوانين لسنا بحاجة إليها، وبأننى فى حال وقوفى سأحاكم على اعتبار أننى الصانع الوحيد لحوادث كل الطرق، والقاتل الوحيد لكل المصابين.
أسرعت مبتعدا عن موقع التصادم، وظلت إجابة السؤال معلقة، كيف لشهم ومواطن مثلى أن يترك سيارة تتلوى فى انتظار المساعدة؟
=============================
المقال نشر فى جريدة العربى الناصرى ، الأحد 14 سبتمبر 2008م

Monday, September 08, 2008

ثأر قديم

ظلت الشمس سنوات تحاول أن تغمر بالضوء حجرات دار أبو العز، طردا للحشرات الصغيرة وبيوت العنكبوت، إلا أن دار أبو العز كانت حجرتين وصالة ضيقة من الطوب اللبن، تغطيها طبقات قديمة من القش والحطب، تبص على السماء من فتحات طينية صغيرة وتنام محشورة فى حارة "النقرة" بين عدد من الدور المماثلة.
لأن أسماءنا ثأر قديم، أهملت القرية شأن أبو العز كما أهملوا شأن عائلته، فأهل الحل والعقد والسلطة وكبار اللصوص ينتمون إلى عائلات أخرى، وظل أبو العز يبحث عن أسباب العز، يحوم حول جلسات الكبار ويجمع أسرار القرية.
أبو العز كان عبقريا مراوغا يكره شمس الظهيرة، فى أواخر الليل هو لص رشيق يتسلق حوائط الدور والزرائب ليجمع الشارد من آهات ودجاج وبط وأوعية نحاسية، فى أوائل النهار هو تاجر ماكر يجرى اتفاقات سرية للتخلص من سرقاته نقدا أو بالمقايضة، وفى أواخر النهار هو فقير غلبان تستأجره نساء القرية، مقابل بيضة أو رغيفين من القمح، لينادى على ما ضاع منهن من دجاج وبط وأوعية نحاسية، وفى أول الليل يعود عاملا مجهدا إلى داره.
تآمرت الحكومات على أهل القرية، فضاقت معيشتهم وأفكارهم وتآكلت أنسابهم، وسافرت أفواجهم إلى بلاد الغربة، واختار أبو العز الأوقات والطرق الملائمة للسفر والعمل فى بلاد الغربة، وعاد بعد سنوات محملا بالهدوم والنقود والمراوح وزجاجة من مياه مقدسة.
على أنقاض الدار القديمة ودار غريم ملاصقة أقام أبو العز داره الجديدة، طابقين من الأسمنت المسلح، مدهونة حجراتها بالبويات الملونة، ويعلو بابها جرس يرن بأصوات البلابل، وفى مدخلها كنبات خشبية وكرسى فخيم من الخيزران.
حين أعلن رئيس الدولة عدم خجله من وجود مهندس أنهى سنوات تعليمه الجامعى وأجبرته سياسات الحكومة على العمل مبيض محارة، صار المثل الشعبى قانونا رسميا، المواطن يساوى قدر ما يملكه من نقود.
هكذا أطلت الشمس مرات عديدة على مجلس أبو العز، يركب الكرسى الفخيم وسط مريديه، يؤكد أن الدجاج فى بلاد الغربة يبيض ذهبا، يحكم بين المتخاصمين، يأمر بإصلاح أحوال النساء، يقرض الراغبين فى السفر أو الزواج، وينصح المتآمرين على صنع ثورة جديدة.
=======================

Sunday, September 07, 2008

تجربة الكتابة لجريدة البديل

فى شهر مايو الماضى، وصلنى خطاب على البريد الالكترونى من مسئول صفحة الرأى فى جريدة البديل القاهرية، يطلب منى مقالا للنشر فى الجريدة مقابل أجر، ولأن الكتابة تمثل فرحا خاصا لى تلقيت شكل الخطاب بالقبول، وحين اتصلت بالمسئول هاتفيا أخبرنى انه يعرفنى من خلال مدونتى الالكترونية (رقبة الحمامة)، وطلب منى مقالا يتواصل مع الأحداث الجارية ويعارض رأى بعض الكتاب فى الجريدة، وحين شرح وجه نظرة فى أن الكتابة على المدونات هى كتابة ذاتية لا تصلح للصحافة اكتشفت أنى أتعامل مع تاجر متواضع يخطو حديثا فى عالم الصحافة، لا يفرق بين الكتابة الجميلة وبين كتابة توصيل الطلبات للأدمغة، هكذا انتابنى مشاعر قرف من فكرة التعامل بهذه الطريقة مع الجريدة، وأهملت الاستجابة إلى طلبه.

مر شهر على حادثة مسئول صفحة الرأى، وفى شهر يونيه اتصل بى رئيس تحرير الجريدة فى خطاب على البريد الالكترونى طلب منى أن اكتب عمودا صحفيا أسبوعيا مقابل اجر، ظهر لى أن الأمر جاد فأجلت موافقتى ثلاثة أسابيع درست فيها مع بعض الأصدقاء طرق التعامل مع جريدة يرى أصحابها أنهم يساريون مصريون.

حين اختمرت رغبتى فى الكتابة إلى الجريدة تحدثت مع رئيس التحرير، وفى اتصال تليفونى ثم فى لقاء شخصى أشاد بأسلوبى فى الكتابة وقال انه نوع نادر جميل ويحبه، وطلب منى أن اكتب عمودا أسبوعيا فى الجريدة يمثل كامل حريتى فى اختيار الموضوع والأسلوب المناسب، وهذا بالطبع داخل الدائرة العامة لأخلاقيات الكتابة دون تجاوز للخطوط الحمراء للصحافة المصرية، كانت دماثة خلق الرجل ووده معى سببا فى أن اشعر بالسعادة وأقبل مخلصا فى الكتابة لجريدته، ووعدته أن أبذل جهدى كى اصنع ست أو سبع أعمدة جيدة على الأقل من بين كل عشرة أعمده اكتبها.

على مدى شهرى يوليو وأغسطس نشرت ثمانية أعمدة أسبوعية متواصلة فى صفحة الرأى، كانت كتاباتى أدبية اجتماعية فبدت نوعا غريبا فى صفحة تضم كتابات متجهمة قليلها كتابات رفيعة المستوى من حيث الصياغة ووضوح الفكرة، وكثيرها نشرات حزبية وكتابات مكرورة سطحية ساذجة.

فى عمودى الثامن كتبت رأيا عن قضية التحول الدينى فى مصر من المسيحية إلى الإسلام، بذلت جهدا فى صياغة رأيى ليحمل الصياغة العلمية والعرض السليم، وحين حادثت رئيس التحرير عن العمود فى شكل صورة أرسلتها إليه قبل النشر قال: انه يفضل لى الابتعاد عن المواضيع التاريخية وأن أبقى فى منطقة أخرى من الكتابة أجيدها، كان الرجل متحيزا لرأيه وانهى حديثه قائلا: على كل حال المقال هو رأيك، وفى موعد النشر رأيت العمود منشورا فى الجريدة كاملا.

ذهبت للجريدة فى زيارة عمل، وفى لقاء مع مسئول صفحة الرأى قال: أنا لم افهم مقالا سابقا لك وبرغم ذلك نشرناه (المقال يتكلم بأسلوب أدبى عن حالتى لحظة استلامى أول مبلغ من الجريدة، مقال يتعرض لبعض مكونات الجو النفسى المحيط بالصحفيين فى مصر)، وأردف متوجسا فى قلق وقال: أتمنى أن تقترب مقالاتك من القراء، هنا أدركت يقينا أننى أمام قارئ لأعمالى ليس لديه معرفة بالمقال الأدبى وليست لدية رغبة فى أن يرى نوعا راقيا من الكتابة الصحفية، وأكملت الزيارة بلقاء مع رئيس التحرير وحين سألته رأيه فى مقالاتى قال: أنا شخصيا أحب كتاباتك، وأرى أن اقتراب مقالاتك من القارئ أمر مطلوب، ثم أردف ملاطفا: عليك أن تستمر فى الكتابة معنا لدى الجريدة بأسلوبك التحليلى الساخر.

نظرت فى عينى رئيس التحرير ثم ألقيت نظرة ساهمة على صورة معلقة على الجدار أمامنا وبدأت استجمع أطراف الصورة من حولى، وجدتنى أكتب فى جريدة يسارية تدخل منافسه مع صحف أخرى وتشاركهم السائد بينهم من إثارة وتهييج، تلعب معى إدارتها أساليب تجميع وتفريق، من ليس من جماعتنا فهو علينا، وجدت مقالا لى لم يفهمه مسئول صفحة الرأى ومع ذلك تم نشره، ومقالا آخر يحمل رأيا مخالفا لرأى رئيس التحرير ومع ذلك تم نشره، فأصبح الأمر واضحا لى، وجدتنى أمام جريدة تلبس ثوب نشرات التهييج الحزبية، وأمام قيادات جريدة ترى أننى صالح للمساومة على طريقتى فى الكتابة.

إنى اعرف أنواعا من الكتابة المتواضعة وعشرات من مدعى الكتابة يتقيئون شهواتهم المتواضعة حروفا وكلمات تحاصر السذج من القراء، وأعرف انه من السهل جدا الاقتراب من القراء السذج بالتهييج والسطحية والمسخرة، مقال عن الحجاب، ومقال عن التوريث، ومقال عن الأقباط، ومقال عن النوبة، ومقال عن القمح المسرطن، وأخرى عن دخول أتباع الراقصات إلى مجالس الشعب والشورى وصالات التدين، أنا اعرف ولكنى أتناول كل هذه الموضوعات بأسلوب راقى بعيدا عن السذاجة أو السطحية أو الاستخفاف بالقارئ، أننى أبذل جهدا واحتشد للكتابة، أجمع أطراف الفكرة قاصدا أن أقدمها فى صياغة درامية جميلة لقراء يحتشدون بذائقة الجمال للقراءة، أنا اكتب لنوع رشيد من القراء.

هكذا جمعنى حب وود مع شخص رئيس التحرير، وفى الوقت المناسب تصافحت معه على باب مكتبه، هو يتمنى لى التوفيق فى مقالاتى القادمة بالجريدة وأنا قررت التوقف عن الكتابة لنفس الجريدة.

Saturday, September 06, 2008

حمام بالفريك

أحسن الطعام حمام محشو (بالفريك)، وأبسط التفاخر هو أنا من هناك وأنت لست من هناك، وأجمل الحواس أنوف تشم بالطريقة المناسبة.
فى ستينات القرن الماضى، كنا طلابا مغتربين للدراسة الجامعية، أنا طالب مغترب من المنصورة أسكن فى شقة متواضعة على حواف مدينة القاهرة مع طالب مغترب من سوهاج، كان لدينا خزانة لحفظ الطعام، خزانتنا (سبت) من البوص معلق فى سقف الشقة نحركه بحبل من ليف النخيل، فى قاع الخزانة نضع بعض الملح وما ندخره من نقود وفوقهم نضع العيش والجبن والطماطم والبيض المسلوق ونغطى الجميع بقطعة من القماش، هكذا يحمى السبت طعامنا من الصراصير والفئران، ويحمى الملح نقودنا من الحسد، ولأن أحدا منا لم يزر الآخر فى موطنه الأصلى أصبح التفاخر بالأنساب هو سلاحنا المعتاد نشهره فى وجه بعضا البعض كلما دخلنا معركة تنافس شرس.
فى يوم حار من مايو، عضنا فقر الخزانة وحرارة الجو وتوتر أيام الامتحانات ونقص النقود فخرجنا على طوع الزمالة ومارسنا التمييز، قلت له أنا من المنصورة، بلاد الخير والجمال ولدينا كثير من الطعام والنقود، فقال لى أنا من سوهاج، بلاد الخير والكرم ولدينا كثير من الطعام والنقود، وبدأنا معركة تنابز بالألقاب.
ولأن الصلح والتطبيع لا يأتيان صدفة، تصالحنا حين طرق بابنا ضيف رائع، انه خال زميلى قادم من سوهاج ويحمل لنا زيارة طعام تكفى إطفاء كل معاركنا، سبعة أزواج من الحمام المحشى بالفريك تغطيهم ثلاث فطائر بالسمن البلدى وجبن قديمة (بالمش) وبيض مسلوق.
حين تفحصنا محتويات الزيارة، اكتشفنا أنه طوال يوم كامل قضاها الخال فى السفر بالقطار من سوهاج إلى القاهرة، تحالفت حرارة الجو ودود المش وازدحام المواصلات لتحول الزيارة إلى فريك مهروس بجثث حمام وبيض مكسور وتتماوج حولها روائح فساد.
كان الجوع وغشم التفاخر وقلة النقود ونصائح الخال أسبابا كافية لأن تعمل حواسنا بالطريقة المناسبة وتصنع لحياتنا مذاقها الخاص، فخلال يومين كاملين ومع بعض المعالجات الحرارية أكلنا الزيارة كاملة، إلتهمنا ما كان حماما محشوا بالفريك وأصبح خليطا من فريك لاذع معجون بلحم فاسد، وظلت حواسنا تعمل بالطريقة نفسها، تصنع الرفض والقبول والصمت.
==============================
المقال نشر فى جريدة العربى الناصرى ، الأحد 7 سبتمبر2008م