Saturday, March 29, 2008

ديمشلت .. دعوة لجمع التراث

ليس من المعتاد أن تسمع الأذن اسم - ديمشلت - بكسر الميم وتشديد الشين بالفتحة، دون أن يطرح السامع أكثر من استفسار عن طبيعة ومعنى هذا الاسم، ديمشلت اسم قريتى التى ولدت فيها وعشت بين ربوعها أحداث صباى، قرية تبعد مسافة احدى عشر كيلومترا شمال شرق مدينة المنصورة عاصمة الدقهلية.

هناك كثير من التفاسير لاسم ديمشلت، بعضهم يقول إنه اسم فرعونى، أصحاب هذا التفسير يطرحون فكرة أن مصر بلد فرعونى قديم ومستقرة غالبية قراه ومدنه، وهذا وارد تماما فعصر الفراعنة امتد على أرض مصر أكثر من ثلاثة آلاف عام ما بين كل من الدولة القديمة والوسطى والحديثة، وأثار الفراعنة تقع جغرافيا على مقربة من قريتى، إنها آثار بنى سلام على بعد حوالى خمسة وعشرين كيلومترا جنوب شرق قريتنا.

يقولون أن ديمشلت اسم محرف لكلمتين منفصلتين هما، دم - تجلط ، وحين تم ضمهما أصبح الاسم ديمجلت بتشديد الجيم، وهو الاسم الذى تحمله قريتنا على خرائط المساحة الحكومية التى وضعت فى القرن العشرين، أصحاب هذا التفسير يرجعون الاسم إلى دماء سالت وتجلطت فى معارك دارت بين الفرنسيين وأهل المنصورة فى القرن الثانى عشر الميلادى أثناء الحروب الصليبية على مصر، ولهذا التفسير وجاهته، فقريتنا تقع على بعد ستة كيلومترات من قرينة الريدانية على شاطئ النيل الشرقى فرع دمياط حيث دارت معارك طاحنة فى ذلك العصر.

يقولون أن اسم ديمشلت هو تحريف سببه تشابه فى المواقف والوقائع بين ما حدث فى التاريخ لقريتنا وبين مثيلاتها التى حدثت لقرية - ديم اللاش أو ديملاش - الواقعة على مقربة عشرة كيلومترات شمال غرب مدينة المنصورة على الجانب الغربى من النيل.

ايا ما كانت المسميات والأسباب التى جعلت من ديمشلت اسما لقريتنا، فإن التاريخ الحى الذى عشته في ديمشلت يسرد على ذاكرتى كثيرا من الأحداث والوقائع ذات المغزى.

قبل خمسين عاما، كان عدد سكان ديمشلت أقل من خمسة ألاف نسمه، براحها كان واسعا به أجران درس وبيوت وزرائب كثيرة، بيتنا كان بالطوب الأحمر والأسمنت المسلح فى حارة الرملة بحرى البلد، وقتها كانت بيوت ديمشلت الأسمنتية لا تزيد على عشرة بيوت والبقية الباقية من البيوت مبناة من الطين أو الطوب الأحمر، اسم حارة الرملة كان انتسابا لبقعة من رمال وقعت على شاطئ بركه صنعتها أثار الفيضان السنوى للنيل على ديمشلت، كان واردا بعض التصارع والتنافس بينا نحن أهل ديمشلت فحين أسمينا أنفسنا سكان حارة الرملة أطلق علينا بقية أهل ديمشلت اسم سكان البركة، وحين كبرت ديمشلت وامتدت مساكنها شمالا، أطلق أهلها على امتدادها السكنى الجديد اسم كفر النقص بتشديد النون والقاف، من نقص بيوته واستخفافا بالقدرة الاقتصادية لغالبية سكانه، وفى المقابل كان السكان الجدد فى كفر النقص يطلقون على بقية مناطق ديمشلت إنها كلها بلد النقص.

كان فى وسط ديمشلت منخفض كبير يرشح بعض الماء فى الشتاء وحين أقيمت به قليل من مساكن الفقراء أسمينا سكانه أهل النقرة، فقاموا بالرد وأطلقوا علينا سكان الطراوة، من طراوة الطقس لغة ومن طراوة المخ وجنونه أخلاقا، وعلى حافة النقرة تواجد شارع ضيق ومتفرد أسميناه الشرم بتشديد الشين وتسكين الراء، قصير لا يزيد طوله عن عشرين مترا يصل بين حارة النقرة وحارة وسط البلد، ضيق لا يصل عرضه الى مترين فلا يمر فيه شخصان فى اتجاهين متقابلين دون أن يتماسا وتعبره حيواناتنا منفردة، شارع الشرم دارت حوله كثير من أحاديث الجدات وصناعة الأساطير فامتلأ ليلا بعفاريت تتشكل فى أرانب وقطط سوداء وحمير طويلة لا يركبها غير الأولياء والشياطين، وكان الشرم معبرا لجنيات السواقى واللقاءات السرية للأحبة ولصوص أوعية النحاس وطشوت الغسيل وجرار الدقيق، وحمل الشرم لديمشلت عشرات الحكايات من القتلى والبغايا والمشوهين يمرون فيه طوال الليل من بعد العشاء حتى آذان الفجر، هكذا كان الشرم هو المكان الرهيب لاختباء الأولاد الكبار حين يلاعبونا الاستغماية.

ديمشلت قسمها شارع كبير إلى قسمين، بحرى البلد الملئ بالأثرياء وقبلى البلد الملئ بالفقراء، ذلك الشارع الكبير دارت فيه معارك كثيرة بين سكان بحرى وقبلى وسالت فيه دماء وطلقت زيجات فأسميناه شارع الخراب، وحين نشأ فى بحرى بلدنا مقامين لأولياء قيل إنهم صالحون لم يهدأ سكان قبلى بلدنا فى الجانب الأخر من الخراب حتى أقاموا قبرا ومولدا لولى آخر أختصوه برعايتهم وأقاموا بجوار قبره نصف جامع ومضيفة يستقبلون فيها الأغراب وضيوف المآتم.

لعبت الكلاب دورا حاسما فى سيرة حياة ديمشلت، كلابنا تسرح وراء بهائمنا للحقول وتسهر عند السواقى وتنبح وراء مسحراتية شهر رمضان، تحرس بيوتنا وتعض أطفالنا ونتشاءم بالإناث منها خصوصا كلبة خالتى زهرة، كانت كلبة خالتى زهرة كلبة سوداء كسرت رجلها الخلفية فى علاقة جنسية مشهودة مع كلب غريب وسط القرية وفى لحظة الاشتباك الحميمة طاردهما بعض من حراس القيم والموتورين جنسيا وكسروا رجل كلبة خالتى زهرة وتولى الأطفال مهمة طرد الكلب الغريب بعيدا عن حمى أرض ديمشلت، لكن الكلبة الدءوب انتقمت من الجميع فعاشت سنوات وسنوات تطارد القطط وتختبئ عن العيون فى وصالها المحموم مع كلاب غريبة وقريبة وذئاب وتعاشر بعض الثعالب وملأت شوارع ديمشلت بنسل متباين من كلاب الحراسة والكسل والزهو الضعيف.

لعبت المقابر دورا كبيرا فى حياة ديمشلت، فى وضح النهار وبعض من الليل تدفن جثث الأطفال والآباء والأجداد وعلى مقربة من المقابر كانت ترعة مغلقة جعلها كثير من اهلنا مقبرة للحيوانات النافقة من الحمير خصوصا، جثث القتلى والثأر والعار لا تدفن فى العلن، مقابرنا تضم أعمال سحر للخراب وفك المربوط وربط القوى وإصابة الحمل وتسهيل ولادة الذكور وزيادة اللبن فى أثداء نسائنا وجاموسنا، وتلعب أعالى أشجار الكافور والجميز والتوت ومفارق الطرق ودورات مياه الجوامع دورا سريا فى الاحتفاظ بتعاويذ ديمشلت صاحبة الجموح والطموحات غير الشرعية.

كل هذه الأحداث مرت على ذاكرتى فى شريط رائع حين زرت قريتى ديمشلت خلال الأيام الماضية فى زيارة شوق بعد أن جاوز عمرى الستين عاما.

الآن ديمشلت قرية يزيد عدد سكانها على ثلاثين ألف نسمة تخلصت كثيرا من ثيابها التراثية الفلكلورية، تتراص فى غير جمال مبانيها الأسمنتية الضيقة على شوارع وحوارى من طين وتراب وعراء أشجار، هكذا أصبحت ديمشلت قرية تتراقص على مشارف المدن الفقيرة.

نحن فى كل أرجاء مصر بحاجة لتسجيل تراثنا الحضارى الذى عشناه فى بيوتنا وكفورنا وقرانا ومدننا قاصدين فى كل الوقت أن يكون التسجيل علميا بهدف تأصيل آليات انتمائنا إلى كل بقعة فى بلادنا.
إن وقائع جدلنا مع الحياة يحتاج إلى جهود علمية وفنية لفحص وتسجيل ما هو موجود من تراثنا نصا وشفاهة وبحثا لكل دروب حياتنا المعلنة والسرية، واننى أهيب بالجمعيات الأهلية ومراكز الشباب والبؤر الثقافية فى القرى والمدن أن تقوم بهذا العمل الجليل، هكذا تفعل كل المدن والقرى فى البلاد المتحضرة، فنحن لدينا ثراء تراثى نهدره بينما يسعى الآخرون لإضافة تراث فوق تراثهم.
=========
فى اليوم التالى لكتابة هذا المقال قرأت اضافة ثرية كتبها الأستاذ سامى حرك المحامى بالنقض فى مدونته علم مصر، واننى اشكر له جهده فيما تناول من فروض علمية حول تسجيل التراث.
=========

Monday, March 24, 2008

!! سياسة التعليم وخرابنا القومى

تطوير العمل بجامعاتنا يتطلب معايير علمية للجودة بما يعنى جودة تنظيم مدخلات عملية التعليم من طلبة وأساتذة وموارد يتبعها جودة العملية التعليمية بهدف إخراج طلاب علم نابهين، هذا الكلام النظرى يتولى مسؤولية تحقيقه على ارض الواقع الوزير ذو المنصب السياسى، والوزير السياسى يأتى بأفكاره ممن أتوا به إلى كراسى الوزارة، نعم كراسى الوزارة فللوزير أكثر من كرسى وأكثر من مكتب يجتمع عليها بلجان التطوير، ولجان التطوير تتكون من خبراء متخصصين أغلبهم من أهل الثقة ممن يقولون آمين وينتظرون رضا الوزير ليرثوا مكانته وقدراته السياسية، من أجل هذا الطموح السياسى تأكل اللجان أفكارها العلمية وتمشى مع الحركة الرائجة، يقولون هذه إرادة الله ثم إرادة الوزير، القليل من أعضاء اللجان ينتظرون تحويل أفكارهم العلمية إلى خطط وأساليب عمل، لكن الخطط والأساليب والتكتيك والاستراتيجية مرهون وجودها بتوقيع الوزير والوزير مشغول بالتواجد فى أماكن الرضا الإعلامية، هكذا تدور حلقة انهيار نظامنا التعليمى بين الوزير وبين اللجان المتخصصة.

فى كل أسبوع وشهر وسنه، تقام فى بلادنا احتفالات لإنشاء مؤسسات تعليم حكومية أو خاصة، بعضها يتبع خفارة شرقية أو سفارة غربية، وبعضها تديره حكمة "خالتى زهرة" أو خبرة "عمّو سيد"، هكذا يتردى أولادنا حيارى فى الالتحاق بمحلات علم تنتشر بين شقق غير صالحة للسكن وبين مبانى ضخمة تصلح للفنادق المتواضعة، ومع تعدد "محلات التعليم" تتعدد اتجاهات أصحابها وتفقد الأمة شخصيتها القومية المتميزة.

صحيح أن دول العالم تعيش فى قرية صغيرة نتيجة لثورة الاتصالات، إلا أن التمايز بين الأمم سيبقى أمرا طبيعيا ومطلبا إنسانيا أيضا، فحركة التاريخ الإنسانى تبقى وجود أمم تحافظ شعوبها على هويتها القومية فى الإمساك بزمام العلم والتكنولوجيا، وتنهى وجود أمم تتنازع شعوبها سياسات تعليم تتناثر بعيدا عن انتمائها القومى.

كل مؤسسات التعليم فى بلادنا، تخضع لإشراف هامشى مدفوع الأجر، مؤسسات التعليم العام تخضع لمناورات سياسية ضيقة لأحزاب غير واضحة المنهج تخترق توجهاتها كثيرا من ثوابت تواجدنا القومى والحضارى، ومؤسسات التعليم الخاص يمتلكها أفراد يخترقون كثيرا من القوانين المالية والاجتماعية ينتهزون الفرص للإمساك بسلطة يديرون بها عقولنا، كلها مؤسسات تدين بالولاء لمن يملك صوتا أعلى فى سوق التجارة بوعينا القومى، هكذا تتحول "خصخصة" التعليم إلى تجارة الخاسر فيها كل أفراد الأمة.

إن مهمة الحفاظ على هويتنا القومية انتماء ووجودا، تتطلب فحص توجهات كل مؤسسات التعليم فى بلادنا وإخضاعها لفاعلية الرقابة والتقييم على أسس موضوعية تتجاوز التوجهات السياسية أو الحزبية لهذا الوزير أو ذاك، توجهات توضع أسسها فى دستور واضح لا تتأثر ملامحه بتغير وزير أو بنقل خبير.
=============================

Saturday, March 08, 2008

قداسة لغتنا العربية

اللغة العربية إحدى اللغات الرسمية الست فى الأمم المتحدة ـ الإنجليزية والفرنسية والأسبانية والعربية والروسية والصينية ـ ومع ذلك الوجود السياسى للغة العربية إلا أننا كناطقين بها لا نشارك بالقدر الكافى فى إنتاج الحضارة المعاصرة، ونعانى من تعثر ثقافتنا فى استيعاب مفردات تلك الحضارة.
تقول الدراسات الإحصائية إن عدد الناطقين بالعربية بلهجاتها المختلفة لا يزيد عن ثلاثمائة مليون نسمة، قيمة إنتاجهم الاقتصادى لا تزيد عن قيمة إنتاج أربعين مليون إنسان هم سكان أسبانيا، الدولة الأوروبية المتوسطة القوة، ونسبة الأمية فى القراءة والكتابة بين أهل العربية تصل إلى ستين فى المائة، أى أن من يعرفون العربية كلغة تواصل حضارى لا يزيدون عن مئة وعشرين مليون إنسان، وعدد هؤلاء يماثل أربعين فى المائة من سكان الولايات المتحدة، ويماثل ربع سكان أوروبا الموحدة، ويزيد قليلاً عن عدد سكان اليابان0
الوقائع من حولنا ترصد أن لغتنا العربية المعاصرة ضعيفة المشاركة فى صنع مفردات الحضارة الحديثة مقارنة باللغة الإنجليزية، وهى اللغة الدولية المعاصرة، ويتكلم بها أكثر من أربعمائة مليون نسمة، ويدون بها أكثر من خمسة وثمانين بالمئة من كافة العلوم الإنسانية والتطبيقية المعاصرة.
وضعف أى لغة يرجع لضعف أهلها، ونحن نعانى من ضعف الترجمة العلمية، فلا نقف على أسباب الحضارة، ونعانى من ضعف البحث العلمى، فلا نشارك فى صنع تلك الحضارة، ونعانى من الكبت السياسى، فلا تحمل لغتنا ثراء التواصل الإبداعى بين الأحرار، هكذا لا يبقى للعربية من وجود فاعل غير قداسة دينية يؤمن بها المسلمون وعددهم يفوق المليار إنسان، حوالى سدس سكان العالم، هم أقرب للتخلف منهم إلى التحضر.
الراصد المحايد للغتنا العربية بين طلاب العلم وفى المؤسسات الإعلامية، يرى أنها لغة تتجه للسكون فى المتاحف، بعد أن كانت لغة قوم عاشوا متحضرين ردحاً من الزمن. وسبيلنا للنهوض الحضارى أن نضرب فى الأرض تقدماً بأسباب العلم، ولا نضرب تخلفاً بخرافات قوم كسالى يستهلكون عوادم الحضارة ويكتفون بالتبرك بقداسة لغتهم.
================================

Tuesday, March 04, 2008

مطرب بالصدفة

فى ستينات القرن الماضى، عند مداخل الشباب، طرقت مدينة القاهرة أدرس علوم التجارة فى الجامعة، مقتنعا أن لدى قدرات خاصة تصلح لتشغيلها فى وظائف تدر دخلا كبيرا وتحقق شهرة واسعة.
فى تلك الأيام قامت حياتى الاقتصادية فى القاهرة على وصول حوالة بريديّة يرسلها أبى من القرية فى ضواحى المنصورة، حوالة بريدية تحمل ستة جنيهات مصرية هى كل مصروفى الشهرى للطعام والسكن والترفيه أيضا.

ذات مرة تأخر وصول حوالة المصروف فعضّنى ضنك الأيام تمرُّ فى انتظار الفَرَج ولا فرج، وفى صبيحة يوم الخميس، السّابع من تاريخ تأخر وصول الحوالة، قرأت إعلانا عن مسابقة لتعيين مطربين جدد ستجرى فى مساء نفس اليوم ، فقررت تشغيل قدراتى بالدخول فى المسابقة، واثقا أن السّويعات الباقية أمامى تكفى جداً لتجهيز مُعدّات شغٌل أية وظيفة.

ذهبتُ للمكوجى حاملاً جاكتّتى الوحيدة، خضراء اللون مشقوقة الجانبين، متأبّطا بقايا صحيفة لففت بها بنطلونى الرّمادى، مرتديا قميصى الأبيض، وأخبرت المكوجى بما أنا مقدم عليه، فأخذ بتلابيب هدومى يكويها ويقدم النّصح لى، واستعرضت أمام رواد المحل إمكانياتى الصوتية، منفرطا فى تقليب وتعديل ما أحفظه من أغنيات، وانفرط صديقى المكوجى يدندن بمواويل وأنغام وطرف ويدس فى أذنى أنها نبراس وهدى لأدائى الجميل.

ولما كانت الأحداث تعرف الدوران لصالحى انطلق راديو صديقى يقلد صوت ليلى مراد ( يا شحاتين الغرامّ)، وأصغيت أنا للمطربة العظيمة مقلدا ومردّدا ومُؤلّفا، وعند نهاية الأغنية أصبحت مدينا بثلاثة قروش لمكوة الجاكته، وبقرش ونصف لمكوة البنطلون، وبعض التعاطف من المارة، وحين علم المكوجى بأننى سأتسابق بنفس قميصى الأبيض طلب منّى خلٌع القميص وكوى اليَاقة والصَّدر مجانا.

أخذتنى حمى الطرب، أتراقص فى الشارع وأتواثب على السّلم، أدرَّب حنجرتى على مقاطع اقتدار لمطربين ومطربات أحبهم، صالح البرش وعيشة المنصورية وأبو دراع، ومررت بحنجرتى على أصوات لا أحبها، عبد الحليم وشادية وفيروز، ودخلت الشّقة رافعا حنجرتى بالغناء، أدسُّ صوتى فى أذن زميل يسكن معى ويقرضنى بعض النقود، ولسبب غير واضح امتعض زميلى وامتشق فردة حذاء وتأسد يطارد جثتى فى أرجاء الشّقة، فانفردت فى الحمام استكمل تدريباتى الأخيرة، وأرطّب الجثّة المنهكة بالماء البارد، كان رجعُ صَّدى صوتى فى الحمَّام يملأنى ثقة فى أننى سأحصل على ذهب كل المطربين، وسأسدّد ديونى لكل البشر.

فى الموعد المحدّد، وقفت على خشبة مسرح متسع، تراصت أمامى لجنة استماع وتراص خلفها عدد من المتسابقين والمتسابقات، هدومهم مكوية وشعر بعضهم منكوش، وتراصّت خلفى فرقة موسيقية، وفى اللحظة المناسبة سألنى قائد الفرقة، ماذا ستقدم يا أستاذ؟ فأجبته واثقا ( الست ليلى، يا شحاتين) .

من الصالة أشار أحدهم ( سَمَعٌ هُسّ) فصمت كثيرون، وخفتت إضاءة المسرح، وتجسدت أعضاء الفرقة أشباحا تلعب موسيقى لا أعرف لها ضبطاً أو ربطاً، وانصرفت بعيدا عن الجميع أقضب الجبين وارفع الحواجب وأغمض العينين، أتحسس بالإبهام شحمة أذنى اليسرى، أرجع أدائى بثقة الحافظ المُردّد، وحين رأيت كثيرا من العيون تشعٌّ بتيه الطّرب من أدائى، رفعت عقيرتى بالغناء، ناظراً إلى ظلمة سقف المسرح ومستمرا فى الغناء، فجأة شعرت بأن الموسيقى توقفت، ولمحت إشارات حانية من اللجنة تستأذننى التوقف، عندها أيقّنت أننى أحرزت انتصاراً فنيا، فاستمرأت ترديد المزيد من كلمات الأغنية حتى صدمنى قول أحدهم (قَرَفتُونا الله يخرب بيوتكم)، وفجأة هاجمتنى الأنوار المبهرة تكشف المسرح، وبانت لى اللجنة تأمرنى بالتّوقف.

لم أعرف نتيجة تلك المسابقة الغنائية حتى اليوم، ومازلت أتساءل، لماذا تتسلط إضاءة المسرح على عيال من مطربي هذه الأيام، صوتهم دون صوتى، وكثير منهم لا يكوى الهدوم؟0