Thursday, September 27, 2007

!!.. إفطار جماعى

لأنى موظف حكومة مصرى، أعمل مغتربا فى مدينة بعيدا عن صحبة الأهل والوزراء والمحافظين ومسئولى الأمن الغذائى، أصبحت أحوالى الاقتصادية أكثر فقرا وأجاز بعض الفقهاء استحقاق الموظفين أمثالى لكثير من الرشاوى والزيت والدقيق وأموال الزكاة.

مع غربتى فى أيام شهر رمضان الكريم، طرحت على زميل فى العمل مغتربا مثلى أن نتناول الإفطار على أقرب مائدة رحمة، واشتعل رأسنا بطموحات أن يكون طعام إفطارنا فخيما على مائدة عامرة، وشحذنا عقولنا نرسم الخطة الحكيمة.

زميلى مثلى يملك بعض كبرياء ترى انه لا كرامة لموظفين حكوميين فى ارتياد موائد رحمة فى مدينة يعملون فيها، لذلك قررنا الهجرة إلى مدينة مليئة بالأثرياء وأوزارهم، تبعد عن عيون الإعلام والحاسدين، ونصيب فيها طعاما على موائد غفران عامرة.

فى اليوم الخامس عشر من شهر رمضان، استقر الأثرياء فى أوطانهم، وهدأت الإعلانات عن موائد التصالح الوطنى، وخفت حركة الولائم بين الأقارب، وصرت مع زميلى أكثر إحساسا بالغربة وأكثر تأثرا بعوارض الصوم، وبدأنا تنفيذ الخطة الحكيمة.

قبل الغروب انطلقنا بسيارتنا كيلومترات قليلة شمال مدينتنا حيث وظيفتنا الحكومية، قاصدين الوصول إلى مدينة يشتهر أهلها بالتجارة وصناعة الفسيخ والأثاث ويسكنها مئات من الأثرياء ، قلوبهم تحب جمع المال مثلما تحب أيدينا إنفاقه، نمنى النفس بموائد عامرة تتنوع ذنوب أصحابها فتتنوع أصناف طعامها، ونهبر أنواعا من اللحوم والأسماك والحلوى.

جبنا شوارع المدينة والجوع يراقصنا، الشارع الأول ملئ بسيارات النقل الكبيرة ولم يكن به مائدة رحمة، الشارع الثانى ملئ بورش الحدادة الضخمة ولم يكن به مائدة رحمة، الشارع الثالث ملئ بمحلات تبيع أفخر أنواع الفسيخ والبطارخ ولم يكن به مائدة رحمة، بقية الشوارع مليئة بتجار الذهب والممنوع والعملة ومكاتب السفريات ومعارض السيارات ولم يكن بها مائدة رحمة واحدة، زاد جوعنا وزاد التوتر، فحصنا الأزقة ولم نعثر على طعام يقدمه أصحابه تكفيرا أو زكاة أو رحمة، اقتربنا من وقت الإفطار دون الحصول على طعام مجانى، فطفحت علينا رغبة فى تأديب المدينة، وقررنا أن لا نشترى طعاما من أهلها.

أصابنا الجوع فأصابتنا جرأة السؤال واحتراف الشحاذة، أطلت رؤوسنا خارج السيارة نستوقف واحدا من أهل المدينة بانت عليه ملامح الشبع، سألناه عن موائد الرحمة، استنكرت عيناه جهلنا بمطالع الأثرياء، وسألنا هو بعين فاجرة عن شيء نعطيه لواحد من أهل المدينة، ابتسمنا بكاء وشماتة وحقدا وبخلا، وهرولنا نغادر المدينة غير مودعين أو ملاطفين أحدا من أهلها، يملأنا الغيظ من كرم أثريائها ويملكنا الأسى من بخل أنفسنا.

تهادت سيارتنا على طريق الإسفلت نطرد المدينة وأثريائها خلفنا، وحين لحقنا موعد الإفطار على مشارف قرية صغيرة، استوقفنا أناس من أهل القرية يسدون الطريق على العابرين، ويصرون على تقديم أكياس مجانية تضم وجبات إفطار مصحوبة بالماء والتمر، إنهم أهل قرى فقيرة يقدمون إحسانهم مخلصين، ويمضى رمضان فى قلوبهم كريما.

بعد أول منحنى على الطريق، وتحت أول كوبرى اقتسمنا ما جمعناه من زكاة أهل القرية، بلح وجوافة وعرقسوس وأرغفة مليئة باللحم والأرز وقطع من الكنافة وملأنا البطون بالجميع، وحين ابتلت العروق انصرفنا نسفه أحلامنا الكسولة بالشبع من بطون الأثرياء.
عدنا إلى مدينة وظيفتنا الحكومية، نفكر كيف سيكون حالنا مع طعام السّحور، نمارس الصبر ونفضح سياسات الحكومة فى إفقار الجميع، نضع الخطة الحكيمة لتحقيق ثرائنا السريع فى الأعوام القادمة، أن نخلط بعضا من البخل والدعاية مع مناورات التخلص من الحكومة والفقراء والأخلاق والضرائب والتجارة فى الممنوع، ونقتسم العائد مع ذوى السلطان، ولا مانع من الدعاء بالخير لأصحاب النوايا الطيبة.

Tuesday, September 18, 2007

!! رمضان كريم ... أحيانا

نحن المصريين نعيش وقائع التعامل مع شهر رمضان من خلال ثقافة انتقائية متناقضة تسمح بخلط وقائع الفساد مع مظاهر التدين، ترى من الوجهة النظرية أن شهر رمضان كريم دائما، وفى الوجهة العلمية تجعل من شهر رمضان كريما أحيانا.


فى المؤسسات الإنتاجية، تقام على شرف كبار الموظفين حفلات إفطار وموائد ذكر تتكلف الكثير من المال والنفاق وفتح البطون، حفلات جوعى لا يلقى فيها الكبار شرف حضور جمهرة العمال وصغار الموظفين، موائد نفاق يجهل أصحابها أن الجائع الفقير لا يشبع من طعام يقدّم له فى خدمة الفنادق الفاخرة، وأن شبع الفقير لا يعافيه من ألم الحسرة على ما يراه من إسراف.
فى أماكن العمل الحكومية، يثرى كثير من الموظفين لأسباب غير أخلاقية، من فساد ورشوة، ويتاجرون بمظاهر تدينهم، يلقون على رؤوس الفقراء أدعية وتعاويذ وصدقات وأكياس أرز وسمن ودقيق وبلح، وفى كل الأحوال يرتدون أقنعة تخفى فسادهم وراء تفسيرات مغرضة لنصوص دينية.


فى الجامعات ودور العلم، يشترك الكثير فى موائد زيف من تدين موسمى، أساتذة يسرقون الطلاب فى كتبهم الجامعية ويدلسون فى نتائج الامتحانات، يطيلون ترديد الأذكار على حبات مسابح فخمة، طلبة يتوقفون عن التدخين وصبغ الشعر، وطالبات يمتنعن عن استخدام مساحيق التجميل ويرتدين حجاب الرأس، وحين يتخلص الجميع من شهر رمضان ينطلقون فى لهوهم شاغلين بقية العام، يتمسكون بطقوس دينية محصورة على مظهر متغير دون أن تمس لديهم جوهرا مستقرا.

فى أجهزة الأعلام، تنتشر موائد إذاعية يستسلم لها كثير من المشاهدين، تسقى القلوب تخلفا ثقافيا مريعا، تصنع البلاهة فى العقول، تدعو للمقامرة واستهلاك الوقت، تسخر من رغبات البشر وتستهين بمشاعرهم، تدرب نفوس المشاهدين على استجداء التواصل وتسفيه لغة الحوار، وتقلص انتماء الجمهور إلى دوائر العقل والثقافة والتدين.

فى الشّوارع والميادين، وعلى شرف الفقراء وباسم الدين، ينصَبُ الأغنياء موائد طعام وشراب تسحق كرامة كل فقير وتهدر منطق كل دين، يخرق الأثرياء قوانين استخدام الطرق ويشغلون الشوارع، وينصبوا موائدهم تفاخرا أمام بيوتهم، وفى النهاية يرتاد هذه الموائد قليل من الفقراء المعوزين وكثير من الضيوف العابثين.

فى كثير من الأماكن تُنصبُ موائد طعام بدوافع دينية، تهدر فيها الأموال وتقصف عنق أى اقتصاد، ففى العام قبل الماضى أعلنت إحدى الجمعيات الرمضانية أنها تنفق على موائد الإفطار حوالى المليون جنيه مصرى يوميا، وينسى مديرو تلك الجمعية أن ثمن عربة واحدة لبيع الفول أو الكشرى لا يزيد عن خمسة آلاف من الجنيهات، مثل هذه العربة يمكن أن تكفل حياة كريمة لأسرة متوسطة، أى أن ما تنفقه تلك الجمعية على موائد الإفطار اليومية، يكفى اقتصاديا واجتماعيا لفتح مائتى بيتا جديدا يوميا، إن أنشطة تلك الجمعية وكثير من أمثالها يخرج عن إطار المفاهيم الحديثة للإصلاح والتكافل الاجتماعى، إنها شركات توظيف أموال تمارس الوصاية الدينية على أموال السذج وصدقات المتطهرين، تتاجر بفقر الناس وتسفه طموحاتهم الدينية، تدير بعض أموال المجتمع بأداء يصنع مزيدا من الكوارث الاقتصادية.

هكذا تنتشر فى بلادنا مواسم دينية مغلوطة الفهم، تظهر ملامح تخلف ثقافى وحضارى، هكذا تنتشر موائد لئام يسعون للغفران مما كسبت أيديهم، يتطهرون بانتقاء تفسيرات خاطئة لنصوص دينية، يدربون الضعفاء على الشّحاذة وإهانة الكرامة، يروجون فى عقولنا لتفسيرات بدوية متخلفة تدافع عن بناء ثقافى متناقض.

نحن بحاجة إلى مجتهدين ثقاة يعرضون صحيح المفاهيم الدينية على محك التقدم الأخلاقى والاقتصادى والاجتماعى للبشر، نحن بحاجة لأن نخرج من جب تخلفنا المهين، ونملأ وعينا وقلوبنا بثقافة جديدة تجعل منا أمة متحضرة جديرة بالحياة بين الأمم.

Monday, September 03, 2007

مولد كشكش بيه

فى شهر سبتمبر المصرى، ينفك نحس الفقر بعيدا عن رقاب بعض المزارعين والتجار والموظفين، يتسرب إلى الجيوب إيراد جوافة وعنب وبلح ومقدم قطن وأرز، وتقبض علاوات وسلف وجمعيات وعربون بضائع، ويحصل مرابون على بعض قروضهم، وتخدش كثرة النقود جيوب عمد ومشايخ وخفراء ورجالات إدارة، وتنشط الغوازى وحانات المتعة والمهرجانات فى إقامة الموالد قاصدين التغرير بكل ساذج كى يصبح (كشكش بيه) عمدة كفر البلاص فى عشرينيات القرن الماضى، عمدة هلس قدمه مسرح نجيب الريحانى فى شخصية عبيط يرتاد كل ملهى لينفق على ملذاته فلوس كل قطن.

فى بلادنا لا يتعب أى كشكش فى البحث عن ملهى يدارى فيه ضعف غرائزه ويرمى فيه الفلوس، فموالد أصحاب الكرامات كثيرة فى سبتمبر الجميل، موالد التسوق والسياحة ودخول المدارس والغناء والزيجات الجديدة، هكذا فى هذه الأيام المفترجة يحل المولد التاسع عشر لسيدى كشكش بيه المسمى مهرجان القاهرة الدولى للمسرح التجريبى.

صحيح أن فكرة التجريب سامية والدعوة لها ملحة ذلك بأن أمر التطور الاجتماعى يحتاج إلى أفراد يخرجون على المتواتر فى المجتمع، يقومون بالتجريب بقصد اختبار فروض عقلية جديدة تطرح قيما جديدة فى الحياة، إلا أن التجريب العلمى يعنى أن الإنسان يستخدم مزيجا حضاريا متاحا من ثوابت اقتصادية واجتماعية وسياسية تتمثل فى مواد أولية وتكنولوجيا وذاكرة معلوماتية وتخيل إبداعى، ويخضع هذا المزيج لإعادة التناول بقصد اختبار تلك الفروض الجديدة.

التجريب العلمى المضبوط يترك أثارا إيجابية تزيد من قدرة البشر على جعل مفردات واقعهم قابلة للقياس والتقييم، ويزيد قدرتهم على تحديد القيم الصالحة لتحسين واقعهم، وفى كل الحالات فان نتائج التجريب تتأثر بمدى حرية المجربين والمبدعين، وكلما زاد تخلف المجتمع حضاريا زادت قوة القيود المعوقة لحرية التجريب والإبداع.

مهرجان المسرح التجريبي الذي يعقد هذه الأيام في القاهرة، مثال حي لتوضيح الآثار السلبية للتجريب، فالدعاية للمهرجان لا تأخذ حجمها اللازم للمهتمين بالمسرح من جمهور ونقاد وفنيين، ويرى الكثيرون أن التقصير في الدعاية للمهرجان أمر متعمد، فليس من مصلحة مجتمع يستمرئ حياة الخمول الفكرى دون تجديد أن يدعو أناسا للتجريب في ثوابته الفكرية والإدارية هكذا يشترك فى العروض عدد كبير من الفرق الأجنبية متواضعة فى إمكانياتها الفنية وفقيرة فى عطاءاتها الفكرية كما أن الكثير من المشاركين الأجانب الذين يدعون للمهرجان يتم جمعهم من الشوارع الخلفية فى بلادهم، هكذا أصبح الاشتراك فى المهرجان لعبة سياحة وسفر لمشاركين تتم استضافتهم ببذخ في الفنادق، ويدعون لإقامة ندواتهم الفكرية في صالات وجزر نائية عن جمهور الثقافة، وتكون النتيجة اقتصار حضور الجلسات الفكرية على نفر قليل جدا من المهتمين بالمسرح تتحرك حولهم نتف محدودة من دراويش يسيحون في زفة احتفالية ساذجة داخل قاعات قليلة لعروض المهرجان.

إن تقييم وقائع إقامة مهرجان القاهرة السنوى للمسرح التجريبى تعطينا نتائج سلبية، فليس فى مقدور العالم أن ينتج تجريبا سنويا فى النشاط المسرحى، ذلك بأن المسرح هيكل واقعى لبناء فكرى، والأفكار الكبيرة لا تتجدد كل يوم، وهكذا تكون حصيلة المهرجان الواقعية أن عدد جمهور المشاهدين فى كل عروض مهرجان سيدى كشك بيه التجريبى، لا يزيد عن خمسمائة شخص، لا يكادون يتغيرون بصفاتهم أو أجسادهم فى كل عام، ونجد أنفسنا أمام ملايين تنفق دون جدوى اقتصادية، كان الأجدى بها أن توجه لإنشاء مزيد المسارح وتدعيم الفرق المسرحية المحلية.ولا يبقى من المهرجان غير فكرة يسعى الكثيرون لتثبيتها فى عقولنا، أننا شعب يعيش على السياحة ويسعى لخدمة سواح المهرجانات، شعب لا يتوقف عن الإنفاق العبيط على مولد سيدى كشكش بيه التجريبى باعتباره سبوبة ارتزاق ينهب منها كثير من محدودى الإمكانيات0