Sunday, June 28, 2009

تغيير الملٌة


آراء كثيرة تتناول قضية تغيير الملة باعتبارها تحولا دينيا للأفراد وانتقالهم من دين لآخر، من حيث الأسباب وآليات التحول، سنقصر حديثنا هنا على أثر التحول الدينى على كل من الفرد والمجتمع.

عن أثار التحول الدينى على الفرد، من المعروف أن للإنسان الفرد طبيعة معرفية ثقافية تتدرج فى ثلاث مستويات تتناسب مع حجم المعرفة العلمية وواقع الثقافة المجتمعية السائدة، المستوى الأول هو مستوى عامة الناس والبسطاء ممن يستمدون ثقافتهم بالتقليد والمحاكاة الاجتماعية، فى هذا المستوى يتم تتناول الدين باعتباره احد الوسائل للتعامل مع الحياة اليومية بشكل يؤدى لمنافع مباشرة، وهنا يرسخ التحول الدينى إلى مجموعة من الطقوس الشعبية يسهل معها رصد مظاهر التحول الدينى السريع والمتكرر بين الأفراد، والمستوى الثانى هو مستوى الخاصة وهم فئة من المثقفين، يدفعهم تحولهم الدينى باعتباره تحولا ثقافيا إلى عزلة اجتماعية تعفي صاحبها من الدين القديم وترضيه بمباهج دينه الجديد، أما المستوى الأخير فهو مستوى خاصة الخاصة وهم ندرة نادرة من المثقفين ويمثل التحول الدينى عندهم هدفا معرفيا يدخل صاحبه فى حالة من التوحد الصوفى والاكتمال المعرفى مع الدين الجديد، عند هذا المستوى يسعى المتحول الدينى لنشر دينه الجديد بين الآخرين باعتباره صاحب رسالة دينية جديدة.

عن أثار التحول الدينى على المجتمع، من المعروف أن المجتمعات المعاصرة تحكمها حزم ثقافات متباينة، حزمة ثقافات ديمقراطية مقابل حزمة من ثقافات ديكتاتورية، ففى المجتمعات ذات الثقافة الديمقراطية تكون القواعد والقوانين الوضعية هى الأساس الحاكم فى بناء الدولة المدنية حيث لكل فرد حرية التحول الدينى باعتبار الدين طقوسا فردية تحكم جماعة من الناس من بين جماعات مختلفة تضمها الدولة، فى المجتمعات الديمقراطية تتعايش الأديان على حدود مشتركة من القوانين المدنية، وفى المجتمعات ذات الثقافات الديكتاتورية يأخذ دين الأغلبية بزمام الأمور ويتحول إلى سلطة قمع فى يد الأغلبية ذات السطوة الدينية.

هكذا فى المجتمعات ذات النظم الديمقراطية، فان الأديان تشغل موقعا معترفا به فى البناء الثقافى للمجتمع ويكون التحول الدينى موقفا يخص فردا بعينه أو جماعة بذاتها، دون أن يمثل التحول الدينى لفرد أو جماعة قيدا على حرية التدين أو حرية مشاركة بقية الأفراد والجماعات فى النهوض بالمجتمع.

Saturday, June 27, 2009

فرحة ما تمت



فى الردح الأخير من الزمن أصابنى رخاء كبير، مات رجل عظيم دون أن أدفع قرشا واحدا فى إعلانات عزائه، وأقيل وزير بعد أن دعوت عليه بفقد الجاه، وبلغتنى إصابة رئيسى بالفالج فشفيت من حساسية لازمتنى بالقرف من مصاحبته طوال عشر سنوات كاملة، وأصبح لائقا أن انظر لحرارة الصيف بملامح الرضا.

حين أتى صيفنا بالحرارة تنشب أظافرها فى جلدى، حط على زهق جليل، وغرقت فى أحلام مداعبة النسيم على شاطئ بحرنا المالح الكبير، وقررت فى الصباح الثانى من الأسبوع الماضى أن انحشر مع زوجتى واثنين من أولادى فى سيارتنا القديمة، حاملا مسئولية الاستنارة واتخاذ قرار التصييف، هكذا انطلقت بقيادة ركبنا الصغير من القاهرة قاصدين شاطئ بحرنا المالح الشمالى.

بين مدينتى وادى النطرون والعلمين، تهادت سيارتنا على طريق إسفلتى موحش تحتضنه الصحراء، طوله مائة وخمسة وثلاثون كيلومترا، عند مدينة وادى النطرون تراصت محاولات بشرية تنصب الجدية فى الإنتاج، تشق الأرض وتملأ المكان بالمزارع والحقول، وانتشرت محاولات بشرية هازلة تنصب الخداع، فتزرع نجيلا صناعيا وزهورا لامعة فى بيئة صحراوية غير مناسبة.

تهادت سيارتنا على الطريق تراوغ شمس الظهيرة، تطارد السّراب وتدفع الهواء حولنا لزجا ساخنا يهدد أنوفنا بالنزيف، هكذا واجهتنا مشكلة الحصول على مظلة طريق مناسبة بعد أن تحولت معظم المظلات إلى دورات مياه جافة يقضى بعضهم فيها حاجته ويستخدمها آخرون لتغيير زيوت السيارات، وأصبح لائقا أن نسرف فى الدعاء بالعقم وقلة الحيلة وانسداد الأنوف على القائمين بصيانة الطرق وعلى مستخدمى طرق المصايف.

وسط الطريق، تحت مظلة أسمنتية غير مناسبة، وضعنا غدائنا من السلمون والبصل على أوراق جرائد قديمة امتلأت بأخبار العولمة والسياحة والعقارات المكيفة والأطعمة المستوردة، أوراق لم نجد على أوراقنا خبرا يعلمنا مقاومة وحشية ذباب صحراوى يزعجنا بالطنين ويلتصق بجلودنا ويشوه طعامنا ويلسعنا كالنحل، وحين فتحنا الراديو تسربت حولنا أخبار طيور وحروب ومشروبات وأمراض، دون ذكر لما سيحدث لنا عندما تتعطل سيارتنا أو ينزف أحدنا فى هذه الصحراء المخيفة.

تضافر العالم والصحراء وصناع الطرق ضدى لأجد نفسى مسئولا عن حياة أسرتى فانطلقت كدكتاتور مستنير أقاوم عزلتنا عن العالم، جعلت من بطنى طبلا أنقر عليه رافعا عقيرتى بالغناء مع جيوب أنفية تتورم وتضيق، يدخلها تيار الهواء الساخن شاقا الحنجرة ولاسعا الرئتين، ويشاركنى الغناء ذباب يردد صوتى بالطنين، وتبتلع الصحراء كل الغناء مثلما تبتلع النسيم العليل، فجأة رأيت ابنى الأكبر يبدى شغفه بغنائى، يشتم الصحراء ويقذف بكل عنف أحجارها فى كل اتجاه، كان يعاقبها على صمتها تجاه غنائى، ومع استمرارى فى الغناء استسلم ابنى الصغير لحجر أمه وغلبهما النعاس، هكذا لم يشككنى أحد فى قدرتى على التطريب.

فى نهاية الطريق عند مدينة العلمين، اقتربنا من الساحل الشمالى نلمس رياح صيف باردة جميلة وتصدمنا غابات من أكياس بلاستيك ونفايات تخفى كل الأرض، حيث المليارات تنفق على قرى ذات مبان فخمة، يسكنها كثير من محدثى نعمة لا يعرفون طرقا لحماية البيئة من حولهم.

على غطاء سيارتنا افترشنا مصيفنا على جانب من الطريق الساحلى، لمحنا طرف زرقة لبحر مالح بعيد تحجبه عنا عشرات القرى الزجاجية والإسمنتية والسياحية، ومع لعب أولادنا على تراب الأرض، حاولت إقناع زوجتى بأن أهل الاستنارة يفضلون طريقتنا البرية فى التصييف على البقاء محبوسين داخل تلك القرى، فاكفهر وجه زوجتى وبانت طريقتها فى ترويع طموحاتى، استعرضت سكينا تحملها عند الطوارئ أخذت تدفع بها طوبا وحصى، وفجأة شوّحت بيدها فى وجهى قائلة (استنارة إيه يا أبو استنارة، بهدلتنا فى بلاد الناس، خلّى نهارك يَعدّى، ورجّعنا البيت).

Saturday, June 20, 2009

فتوى للمقابر



جاء أبو صلعه وذهب أبو عمه، وتأكد للجميع أن مسئولا كبيرا توقف عن الرشوة، وسجن أربعة تجار مخدرات، وحل مجلس الشعب، وإحالة مسئول أمن إلى التقاعد، وطلاق ثلاث فنانات أفسد جمالهن رهطا من الرجال، هكذا تتساقط علينا الأيام أعيادا، وهكذا نحن المصريين، لا نتوقف عن استحلاب مواقف الحزن ونتذوق لحظات السعادة.

فى أعيادنا المصرية نحتفى بالأموات، نزور المقابر وننتشر فى جنباتها، نأكل ونشرب وتدمع عيوننا، نوزّع الخبز والأدعية تصدّقاً على أرواح موتانا، ونهمل إرسال بركاتنا لموتى الآخرين، ونشاركُ الجميعَ احتفاليات بؤس ورثناها منذ عصر الفراعنة.

برغم لحظات الفرح الأعياد، فان مصريا واحدا يموت كل ثلاث دقائق، يصطاده الموتُ نائما على سرير، أو راكبا الإسفلت، أو واقفا بجوار أنبوبة بوتاجاز، أو متحدّيا سنج البلُطجية، أو اثر هبوط دموى فى موجة إضرابات، وبحسبة بسيطة فإن حفّارى القبور يستقبلون أكثر من خمسمائة جثة كل يوم، لكن الحسبة غير محزنة تماما، فبرغم تأخر سن الزّواج وسفر الرّجال إلى بحار النّفط، وضعف إحساسنا بالجمال، إلا أنه فى كل يوم تستقبل الأمهات ألف وخمسمائة خَلاص لمولود مصرى جديد، ليكون صافى الحسبة أن المصريين يزدادون عددا بألف نفس جديدة كل يوم.

المزعج فى حسبة الموت، أن المصريين يقاربون الثمانين مليونا، يتكّدس الأحياء منهم فى بيوت تشغل أربعة فى الألف من مساحة أرض مصر، وتبقى تسعه وتسعين فى المائة من أرض مصر صالحة ليدفن فيها حصيلة الاثنين مليون من الموتى سنويا، هكذا تتوزع مساحة مصر، كل حى مصرى نصيبه حوالى ستين مترا مربعا فقط بينما نصيب كل ميت مصرى أكثر من خمسمائة ألف متر مربع.

الآن وقبل أن ينقضى العمر، ويدُوخ الورثة بحثا عن حفرة مناسبة يدعون فيها جثثنا، فإننا نطرح هنا قضية عامة، هى أن مقابرنا الحالية تتكلف أموالا باهظة يشقى الكثيرون فى تحمّلها، ومقابرنا تتحكم في إنشائها كثيرُ من الأمراض الاجتماعية، فلماذا لا تصدر فتوى يصدرها رجال الدّين والأطبّاء الشرعيون لتحديد أبسط وأقل مساحة ممكنة لمقابرنا؟ فنسق مقابرنا الحالية أنها تضم رفات أموات وتوحى للأحياء بأن تاريخنا يقتصر على تحنيط الجثث والبكاء على رؤوس المقبورين.

Sunday, June 14, 2009

حيل الغلابة



كانت أمى، الله يرحمها، مقتنعة بأن الله يحب السلاطين أكثر من الغلابة، وتؤمن بأن حيل الغلابة مقطوع ويثورون على الغُلب بإنجاب أطفالهم فى مواجه الأغنياء، هذه القناعات عجلت بموت أمى مبكرا، فقضت نحبها صغيرة قبل أن تكمل عامها الرابع والثمانين.

فى أول معركة دخلتها مع إخوتى حول توزيع ميراثنا فى الدار والطين، وجدت نصيبى مجرد حطام يكفى لألف ثورة تخلع الغلابة من كل غلب، فتفتيت الثروة جعل الناس فى بلادنا أغلب من الغلب، لا الفقراء يغتنون ولا السلاطين يتوقفون عن إفقار الجميع، وحين أجهدنى فهم حكمة أمى، أخبرنى حافظو التاريخ والأنساب أن أمى لم تدرس فى معاهد حزبية ولم تمارس مراوغات أهل السياسة، كانت أما برية تحب عاشقى الحياة وتكره صانعى الموت، عاقرت الحياة بثقافتنا الشعبية وأنجبت احد عشر مولودا من البنين والبنات، هكذا فتحت أمى أبوابا نعبر بها الحواجز الثقافية بين الطبقات.

إن ملوكنا يأكلون نهار كل يوم لحم طير وما يدعون من ورق عنب محشى باللوز وفول غارق فى السمن البلدى، وفى كل مساء يأخذون مقويات وأصباغا تعطيهم الشباب والعافية، ويبقى دونهم كثير من المصريين، شبه أحياء مقتولين بالفقر، لباسهم خرق بالية لا تستر عوراتهم البائنة، وطعامهم لقيمات جافة لا تلحس معداتهم الخالية، هكذا يتزايد سكان القصور فى بلادنا، يعيثون فى الأرض فسادا، ويحولون مجتمعنا إلى ثلاثة فصائل، فصيل طاغى من ملوك وملكات يورثون أمراء وأميرات، وفصيل من غلابة تصيبهم الحكومة بالعنة والعقم، وفصيل مطحون من عبيد ينجبون فقراء ولا يورثون أحد.

ليس صعبا على الغلابة أن يفهموا فتاوى السلطان فى موضوع الزواج والطلاق وكيد النساء، الصعب هو أن يفتى فقهاء السلطان بحرمان الغلابة من غرائزهم الجميلة، فرغم تعدد فتاوى الزواج فى زيجات المتعة والمصالح والعرفى والمسيار والبوى فرند، إلا أن فتاوى أهل السلطان لم تخفض من زيادتنا السكانية، وبقيت مشاكلنا السكانية تحول ثقافيا دون التوازن بين طبقاتنا، ويعانى مجتمعنا من تسعة ملايين فتاة مصرية يعشن واقع العنوسة ولا يقدر على الاقتراب منهن ملايين من الرجال العاجزين.

أريد فتوى سلطانية تشد حيلى الغلبان وتزوجنى من ألف عانس تملكها يمين الحكومة، وأعد فقهاء السلطان بالبقاء فى دائرة الغلابة حيا دون إنجاب.

Saturday, June 06, 2009

عيد ميلاد



فى شهر مايو ولد كثير من العظماء، القائد الألمانى بسمارك والأسطى عنتر الكبابجى وخالتى زهرة وثلاث من الراقصات ومطربين ولص واحد، وحين عبرت أعراض الكوليرا فوق جسدى دون أثار تذكر، قرر والدى التصالح مع الحكومة وحشر اسمى بين سجلات مواليد مايو من عام الكوليرا.
لأن يوم ميلادى لا بد أن يكون عظيما، اصطدت يوما مناسبا من الأسبوع الماضى تصالحت فيه مع مشاكل ضغط الدم، وقبلت الدور الأمريكى فى تحقيق السلام، وحبست غيظى لترقية أربعة موظفين، وقدمت العزاء فى موت زوجة صديق، وتذكرت بعض الأغنيات المناسبة، وأصبحت مصراً على أن تدرك زوجتى بأن هذا اليوم بالذات هو يوم عيد ميلادى السعيد.
فى صبيحة عيد ميلادى، تثاءبت زوجتي وانسلت في إيقاعها المعهود داخل شقتنا، توقظ وتطعم وتجهز أولادنا الثلاثة وتحنو عليهم، وعادت أدراجها إلى المطبخ، تنظف وتغسل وتشطف، وتبعث أغنية شعبية يتشاكس شخيرها مع صليل الأواني وسقوط المياه وفضلات الطعام.حلمت بقضاء عيد ميلاد رائع، ذلك بأن نصف العالم كان مفعما بالغموض قبل مولدى، وحين ولدت أٍصبح نصفه الآخر لا يمكنه الاستغناء عنى، هكذا مرت الأحلام تتراقص حولى إلى أن واجهتني زوجتى بمريلة المطبخ تندى جسدها بمياه وزيوت وروائح، وتغطى نظراتها وجهى ترصد ملامح عيد ميلادى، ولما أدركت زوجتي أن الأمور عادية ألقت بأربع كلمات: كل سنه وأنت طيب.
وجدتني ابدأ عامي الجديد مستعرضا خلطة من المناورات أخطب بها ودّ زوجتى تمهيدا للرضا والوصال، بدأت حديثا ودودا تحول بحكم العادة بيننا إلى نقاش محتدم، خلت الشقة من أولادنا فعلت أصواتنا وانكشفت للسامعين خبايا بئر علاقتنا الدفينة، أخبرت زوجتى بصراحة أن العنوسة كانت قدر جمالها لولا فضلى عليها بقبول الزواج منها، هى المرأة دون ست الحسن، فأخبرتنى بصراحة أن التشرد كان مصيرى لولا فضلها على بقبولها الزواج منى، أنا الرجل ممصوص القدرات، وبدأنا التباكى على حظ عاثر أدخلنا معا في سوق زواج لا تتلكأ فيه المواكب إلا عند الجميلات وعند أصحاب المقدرة.
تكاثرت أسباب رغبتى في اختراق العالم، فشحذت ما تبقى لدى من قدرات مؤجلة، لأقضى عيد ميلادى خارج البيت أعانق الزّحام في المدينة الكبيرة، وحين تضاغطت أشيائى انتحيت بجسدى مقعدا فى ميدان عام، أحسد أصحاب أعياد الميلاد، وأتلمظ تباعا بقدراتى المتهالكة.