Tuesday, June 29, 2010

حٌمىً وظيفية


طوال نصف قرن من تعاقب الوزراء والمديرين وصك القوانين وأنا أعمل موظفا حكوميا، فشلت فى أن أكون رئيسا كبيرا لأى عمل، فظللت مع الزملاء نمسك السيرة ونغتاب القيادات ونضع الخط المناسبة للحصول على الترقيات، وفى الوقت المناسب حملت خطة مناسبة وقدرا من النصاحة وتوجهت إلى مديرنا الكبير قاصدا الحصول على ترقية كبيرة.

بأدب جم دخلت مكتب مديرنا الكبير، وحين انفرجت أساريره عن ابتسامة كبيرة، انتحيت به جانبا وسررت فى أذنه رغبتى المجانية فى نزع الفساد من وجه الأرض ومن قلوب الموظفين، وأبلغته أقاويل غيرى من الموظفين الحاسدين المتآمرين، بأن قياداتنا الأعلى تهبر أموالا كثيرة تضاعف دخولها الوظيفية فوق مستوى العقل وتجاوز روح القانون، وكله يا باشا بصريح القانون، فلا يرصد هذه الدخول إلا حاسد أو متآمر، وأتممت شحن صدر مديرنا الكبير بأنه عظيم فى الدنيا ومغفور له فى الآخرة.

قبل أن أفرغ من فنجان القهوة الوحيد، طرقت يد المدير الكبير على كتفى، وبصوت واثق أقسم بالعيش والملح دون أن يحلف بالطلاق، أن إدارتنا تعمل بمنتهى الشرف والشفافية، وأن مرتب مديرنا الكبير لا يزيد عن بقية الموظفين غير جنيهات معدودة، ينفقها على شاى وقهوة الضيوف وعابرى السبيل، هكذا اسقط المدير الكبير فى يدى فشل مديحى ورفض خدماتى، فقررت أن أعرض خدماتى على المستوى الأعلى وظيفيا، انه مستوى رئيس مديرنا الكبير.

فى اليوم الموعود، دخلت مكتب رئيس مديرنا الكبير، عرضت عليه خدماتى الوظيفية فى الغيبة والنميمة وبعض المشهيات واقتسام الغنائم، فجحظت عيناه انبهارا بقدراتى وأطلق كلامه فى وجهى، يا زميل: دع القافلة تنبح والكلاب تسير، فجهرت بدعائى لكل قيادتنا بالرشاد والصحة.

قبل أن افرغ من كوب الشاى الوحيد، باغتنى رئيس مديرنا الكبير برغبته السامية فى إنهاء اللقاء، وقال محذًرا : يا سيد أننا نبذل فى العمل كثيرا من جهودنا التطوعية، لا نريد جزاء ولا شكورا، فإذا كان المدير الكبير قد أقسم لك بشرفه بأننا أشرف من الشرف، فإننى اقسم لك بالطلاق بأننا نصنع الشرف ونرعى الشفافية، هكذا خرجت من مكتب رئيس مديرنا الكبير صفر اليدين من أية ترقيات محتملة.

فى مساء نفس اليوم، رقدت فى السرير محموما، أرمى بهذيان الحمى وهلوسة الفشل فى وجه زوجتى، أحادثها: الشفافية يا أختى أن يكون القانون واضحا وتطبيقه مفهوم، وأصل المثل يا أختى أن الكلاب تنبح والقافلة تسير، وعند هذه الوصلات من الشفافية، وترويجا لطرق الحكومة فى علاج حمى صغار الموظفين، كانت زوجتى قد أعدت الماء والصابون والحقنة الشرجية.

المقال نشر فى جريدة نهضة مصر الثلاثاء 29 يونيه 2010م

Tuesday, June 15, 2010

التفكير بالوكالة


تلقيت على بريدى الالكترونى خطابا من أحد طلابى السابقين بالجامعة، أخبرنى فيه انه تخرج من الجامعة وحصل على عقد عمل فى دولة خليجية، وانه الآن يغرف من المال غرفا، ويعانى من سوء المعاملة قهرا، وانه يشكرنى على ما أعطيناه من علم.

فى الفقرة الهامة من الخطاب طلب منى تلميذى أن أكتب مقالا واحدا يظهر وجهة نظرى فى سيل من الأحداث، الأزمة المالية العالمية والكساد الاقتصادى، والقرصنة فى خليج عدن، وحالة الشتات العربى، والوضع فى السودان، ومشاكل عبودية وسخرة يتعرض لها المصريون فى الخارج، هكذا زحمنى تلميذى بكل هذه المشاكل وطلب رأيى فيها مجتمعة دون أن يقدم وجهة نظره فى واحده منها، وفى نهاية الخطاب أسرف فى مدحى وكاد أن يجعل منى القادر الوحيد على إصلاح كل فساد حول العالم.

المديح من تلميذى وقع موقعا طيبا فى صدرى، لكن طلباته أصابت موقعا سيئا فى عقلى، ذلك بأنه يمثلا نموذجا صارخا لمنهج فكرى مريض غرسناه فى عقول خريجينا الجامعيين، انه منهج التلقين والتسميع دون فهم، تلميذى يريد منى أن أكون وكيلا عنه فى رصد الأحداث وتحليلها والتعبير عنها، لا يريد أن يبذل مجهودا بنفسه تجاه حل ما يواجهه من مشاكل، كأنه يخشى المسؤولية عن آرائه، هكذا يعيش تلميذى عصر تخلفنا المهين، يشعر كل منا بأزمات يجمعها فى بؤر شعورية ولا يبذل مجهودا فرديا فى محاولة حلها، إننا ننتظر المخلص والفادى والشهيد والأب الكبير ونسعى لتوريطهم فى الحلول، نأخذ على يديهم مزايا النجاح ونلقى عليهم مسؤولية الفشل، هكذا وجدتنى أدرك حجم المأساة التى شاركت فى صناعتها حين تخرج جامعاتنا هذا الصنف من البشر على هذا المستوى المتدنى حضاريا.

الأصل فى المسائل أن يكون للإنسان مواقف وأن يكون قادرا على التعبير عن مواقفه بوسائله الخاصة، وأن يشارك الآخرين فى إيجاد الحلول، لكن أن يلقى مسئولية الفهم والتحليل والتعبير على أكتاف الآخرين فذلك هو التخلف الثقافى والحضارى بعينهما.

إن أصل العطب فى خريجينا هو نظام تعليمنا الفاسد المتدنى فكريا وأخلاقيا، انه نظام يقدس ما لا يستحق القداسة، يبطل الفكر ويحاصر الإبداع، فلا ينتج غير عبيد يجأرون بالشكوى ولا يتقدمون بالحلول، انه نظام ينتج بلهاء يجلسون أمام شاشات العرض العام وشيخ الجامع وقسيس الكنيسة وكاهن المعبد وكاتب الأحجبة وحامل البوق الحزبى والوزير والخفير، انه نظام مريض ينتج شعوبا لا يشقيها جهل فكرى ولا يؤرقها تخلف حضارى.
المقال نشر فى جريدة نهضة مصر- الثلاثاء 15 يونيه 2010م

Tuesday, June 08, 2010

تنشيف ريق


الكائن الوحيد الذى أحب أن أشاكسه هو زوجتى، أعدها بتحقيق أحلام فظيعة، رئاسة مؤسسات وجامعات ونوادى وامتلاك قصور وخدم، وأتوقف عاجزا عن مناولتها هدمة أو كسرة خبز أو شربة ماء، فتسخر من طفولتى وتدعو بشفاء عقلى، وأفعل ما افعل مدركا أن الأحلام الكبيرة لا يقدر عليها فقراء يشحذون اللقمة والهدمة، وأن العجز يواكب عبيدا لا يسعون نحو الحرية.

والشخص الوحيد الذى أستطيع أن أقرفه هو زوجتى، أخرج عينيها بعشرات من الطلبات والأوامر والنواهى، أنبش قلبها حزنا وكمدا على عيشتها معى، وأفعل ما أفعل متأكدا من قدرتى على المراوغة والتطليق والزواج من عشرات الصغيرات دون أن يسمح الرجال فى مجتمعنا لأى زوجة بحرية البقاء أو الخلع.

ذات مرة استرخى الأمان فى بيتنا، فطرحت زوجتى أسئلة ودودة فى ريق واحد: ما الذى يجعل رجال مجتمعنا أزواجا طغاة فى بيوتهم، متسلطين على أولادهم؟ فى العلن يمتدحون قيما وبشرا وفى السر يقسمون على أنها لا قيم وأنهم لا بشر؟ وحين بلعت زوجتى ريقها، أمطرتها بوابل من الأوامر والنواهى والحكم، قاصدا أن أسمعها الإجابة من زوج مغلوب على أمره.

يا زوجتى الطيبة: مثلى مثل معظم الرجال فى بلادنا، لا ينقصنا من مواهب العظماء شيء، لدى كل منا سبعا من جليل الصنائع، قادرون على الغناء والتطريب فى الحمامات، وقادرون على الهتاف والتصويت فى لجان الانتخابات، حصلنا على شهادات محو الأمية وقادرون على الإمساك بجوائز التفوق، سافرنا لأراضى الغربة وقادرون على أن نكون شيوخا وأصحاب معالى، تاجرنا فى النخالة وقادرون على امتلاك مطاحن الدقيق، امتطينا برادع الحمير وقادرون على إدارة مخازن الطائرات، فكرنا فى الزواج وقادرون على إنجاب الورثة والطامعين، ومع كل هذه الصنائع فان بختنا ضائع.

مثلى مثل معظم الرجال فى بلادنا، حظنا تعيس، لا نملك ظهيرا من خال أو عم أو حمى أو نسيب يجلسنا فى حجر رعايته، فنصبح فاهمين عباقرة، ومتكلمين مفوهين، وقادة حكماء، معداتنا خالية وقلوبنا حزينة، تلوك ألسنتنا إفطارنا بين بصل ناشف وخبز حاف، نخشى الكلام حتى أخر النهار ونصمت بقية الليل، يأتينا غدائنا ناقصا ونكمل شبعنا بالماء ونقضى عشائنا فى النوم، عاجزون عن إطعام أنفسنا لأن أرضنا تبور وتهدر فيها الموارد، عاجزون عن الدعاء المستجاب لأن عقولنا صودرت، وأغلقت أساطيرنا أبواب كل علم، ننجب ذرية ضعفاء، ونرعى قواعد حسب ونسب تفرضها علاقات فاسدة، فهل بعد هذا الإجحاف وتنشيف الريق، هل يبقى فى بلادنا رجال وأزواج طيبون؟
المقال نشر فى جريدة نهضة مصر - الثلاثاء 8 يونيه 2010م

Tuesday, June 01, 2010

أبو العريس


حين بلغ إبنى البكرى عمر الفحولة الكافى لأن أصبح أبا لعريس محتمل، أيقنت أن نسلى سيضرب فى الأرحام أحفادا يملأون المستقبل عزة وفخارا، وحين كثرت خروقات ابنى فى معايرتى بأننى من جيل قديم تزوج مجانا أيام الجنيه الجبس، وأنه من جيل جديد كبر دماغه عن أى زواج، قررت أن أورطه ليشرب كأس الزواج من بنت أصول، وحين تأكدت أن ابنى المحروس رجل كسّيب يعمل فى شغلانة على قد حال النظام الاقتصادى السائد فى بلادنا المحروسة، أعلنت بين الأهل والجيران والطامعين رغبتى فى أن أصبح جدا، وأن ابنى المحروس هو من سيجعلنى جَداً كثير الأحفاد، ولأن أحفادى فى ظهر الغيب عظماء، استظرفت من أجلهم سماجة هذا الصديق، ورضيت غباء ذلك الجار، وبررت سلوك تلك الطامعة، وطال صبرى على من يتحفنى بآرائه فى زواج بنات الأصول.

فى موعد الاستشارة المحدد، جلس صديقى داخل سيارتى الرائعة يسكب على مسامعى أن البنات كثيرات على قفا من يشيل، وأن الزواج من بنات الأصول أمر ميسور، فثلاثون ألف جنيه مصرى هى شبكة معقولة، وتسعون ألف جنيه هى فرش ثلاث حجرات فى شقة الزوجية، مطبخ وصالون وأنتريه، وعشرون ألفا هى حفلة فرح على الضيق، إذن الحسبة بسيطة، قل هى مائة وخمسون ألف جنيه يتكلفها العريس، بشرط امتلاكه لشقة مناسبة، أما العروس فتتحمل ما تبقى من نجف ومراتب وستائر وفوط لزوم إنتاج الأحفاد، ولا بأس أن يزيد صاحب الفضل من سعته.

ظل صديقى يسكب فى سيارتى آراءه عن زواج بنات الأصول، وظلت سيارتى تترنح على الطريق نحو منزله المحشور بين منازل المصريين، وحين بدأ يعيد آراءه رأيتنى أعيد حساباتى وأنظر إلى ربطة عنقه الطويلة تمهيدا لارتكاب جريمة خنق مع تكسير جمجمة، وفى لحظات تقدير لحجم الفاجعة تحسست الشارع والمارة فاصطدم بصرى بعشرات من العابرات سبيل الأنوثة، فأعلنت لصديقى أن أكثر من ستة ملايين فتاة مصرية دخلن سن العنوسة، وأن ابنى فحل من النابهين، وان أكثر من ستين فى المائة من الأسر المصرية تعيش فى حجرتين، يأكلون فى صحون من البلاستيك وعلى طبالى من أوراق الجرائد، وأن كيلو لحم الغنم الشهى لا يزيد على خمسين جنيها، فلا يعقل أن تزيد ثمن العروس من بنات أصوله على ألفي جنيه.

قبل انهيار أحلامى صحت: أيها الرجل غادر سيارتى سالما، وأحذر غضب الفحول منا ومن أبنائنا، فعرائسك أكثرهن من المتردية والنطيحة وما رفس الجحش.

المقال نشر فى جريدة نهضة مصر – الثلاثاء أول يونيه 2010م