Friday, December 18, 2009

عن الدولة المدنية


الإنسان الفرد هو الوحدة الأولية للجماعة السياسية، وتناول مشاكل الجماعة السياسية المعاصرة يتناول وجود الدولة الحديثة، ولفهم السلوك السياسى للإنسان يلزم التفرقة بين العلم والإيمان.

العلم أسبق فى التناول الفردى من الإيمان، هكذا يتطور العلم من جيل إلى جيل، وهو منهج موضوعى للمعرفة يعتمد على البديهيات العقلية والحواس الغريزية فى تفسير وفهم العالم، تتساوى عنده الفروض مع المصادرات ويقبل مناقشة الجميع، العلم منهج يسمح للفرد البشرى بتخزين المعرفة ونقلها إلى غيره من البشر متجاوزا إمكانيات الأفراد المتباينة بسبب حياتهم فى موطن جغرافى بذاته أو ضمن قبيلة بعينها، هكذا يبقى المنهج العلمى فى المعرفة هو المنهج الأكثر ديمقراطية لتفسير أحداث كل من الماضى والحاضر ولاستشراف المستقبل، هو منهج يحتمل وجود مناهج أخرى للبحث عن المعرفة.

الإيمان منهج ذاتى فردى لتفسير العالم يعتمد على الحدس والمصادرات العقلية، فالإيمان بأن البشر أصلهم نطفة حصان يلزم المؤمن بتفسير الوجود البشرى بناء على مصادرة وجود هذا الحصان، والإيمان بأن آدم أبو البشر يلزم المؤمن بتفسير الوجود البشرى بناء على مصادرة وجود آدم، هكذا تتعدد تفسيرات الوجود بتعدد المصادرات، ويبقى الإيمان كمنهج فردى صالحا فى نظر المؤمنين لتفسير الأحداث فى الماضى والحاضر ولاستشراف المستقبل، والإيمان صالح بقدر ما يحققه من منافع للفرد المؤمن، ولأن الإيمان منهج ذاتى فردى فهو لا يقبل الاعتراف بمنهج الآخر فى المعرفة، حتى ولو قبل الفرد إلى حين فكرة التصالح مع ذلك الآخر، فكل دين هو منهج معرفى ناسخ لغيره من الأديان، هكذا لا يمكن تعميم الدين على جميع البشر كمصدر وحيد لمعرفة الحياة والتعامل معها.

فى عصرنا الحاضر يعيش البشر فى كيانات سياسية يتعاظم حجمها من أسرة إلى عائلة إلى قبيلة إلى دولة، وهناك نظريات مختلفة تفسر وجود الدولة الحديثة، من بينها نظرية ترى أن غريزة حب الإنسان للحياة هى حجر الأساس لوجود الأشكال المتباينة للجماعة السياسية، هذه النظرية لا تقيم وزنا للفصل التعسفى بين حرية الجماعة وبين حرية الفرد، وترى أن دستور الدولة الحديثة هو عمل وضعى يمكن تعديله لصالح الجماعة، كلما أقبلت الجماعة على أمر سياسى جديد.

هكذا يتطلب المنهج العلمى للتقدم البشرى وجود دولة مدنية حديثة لها دستور يكرس للمواطنين حريات الانتقال والاعتقاد والعمل، دون تمييز بينهم بسبب جنس أو لغة أو دين.


Saturday, December 12, 2009

شفت مليونير


أنا مصرى قديم، عشت قبل أربعين سنة فى عصر الجنيه الجبس، ثمن كيلو اللحم نصف جنيه مصرى، والراتب الشهرى للموظف الكبير خمسون جنيها، والمليونير يملك من الجنيهات عشرات كثيرة فوق الخمسين، فى ذلك العصر من ستينات القرن الماضى سمعت بأذنى فى مدرجات الجامعة محاضرة لأستاذ الاقتصاد الدكتور يحيى عويس قال فيها: لو أن مصريا سعيد الحظ تم تعيينه منذ يوم ولادته فى أعلى الدرجات الحكومية غير السياسية، درجة وكيل وزارة، وظل يتقاضى راتب الوظيفة حتى بلوغه سن المعاش عند الستين، وأن هذا السعيد عاش مقطوعا من شجرة غير مدين بالتزامات مالية تجاه أحد، فان مجمل ما يستطيع ادخاره لا يزيد عن عشرة آلاف جنيه مصرى.

كان هذا حديث عالم متخصص فى الزمن الماضى، وبحساب أسعار أيامنا الحالية، فان كلام العلم يقضى أن الفرد المنتج بقدراته الذاتية حسب الأصول الاقتصادية والأخلاقية لا يمكنه أن يدخر طوال حياته العملية أكثر من مليون جنيه مصرى، من يومها وضعت الحسبة حلقة فى أذنى وركبت نهر الحياة أبص على أولاد بلدنا، وأمارس بعض النميمة.

منذ أيام ذهبت إلى ندوة ثقافية تتناول طموحاتنا الصناعية، وأمام مقر الندوة وقفت سيارة سوداء كبيرة، نزل منها مليونير مصرى كبير يبنى لنا مصانعا ويسكب فى أدمغتنا أفكارا، درت فى المكان أغافل بعض العيون ألامس السيارة وأحادث سائقها، أنها سيارة فخمة ضد الرصاص والحسد، فى نهاية الندوة طوح المليونير بيديه واقفا أمام عدسات التلفزيون وبجواره حرسه الشخصى، ليقول أننا دولة صناعية متحضرة يأتيها الخير مع حرية رجال الأعمال، ولا مجال لتدخل للدولة إلا فى أقل القليل، وأن التقدم تحكمه آليات السوق، فحشرت نفسى وسط الزحام مبتعدا عن رائحة فكرة يبثها المليونير تقضى بأن رجال الصناعة وحدهم ملائكة الرحمة بالعباد.

يا لسعدى، أنا مصرى عملت لمدة تزيد على الأربعين عاما، موظفا حكوميا بشهادات جامعية وفوق الجامعية، أرتب أمورى كل شهر لأفلت من دائرة الديون ومع ذلك لم يصبنى حظ الإفلات من العوز، عشت وشفت ولامست مليونيرات مصريين، ولو أن كل أساتذة الاقتصاد والأخلاق فى بلادنا نهضوا من ثباتهم وشافوا أثرياء مصر المحدثين فسيعرف الجميع أن بعض مليونيرات مصر رجال شطار، لا يعيشون عيشة أهلهم ويتبارون فى نهب مصر وإفقار المصريين.