Friday, May 29, 2009

يسكننا الوطن


منذ أيام نشرت على هذه الصفحة وجه نظر أرى فيها، أن المناصب السيادية والحساسة فى الدولة المصرية، مثل مناصب نواب مجلسى الشعب والشورى ورئيس الدولة والوزراء والقضاة، يجب أن يقتصر شغلها على من يحملون الجنسية المصرية فقط، هناك وجه نظر أخرى تسعى لأن يشغل المصريون أصحاب الجنسيات المزوجة دورا بارزا فى الدولة المصرية، هذه الوجهة تضمنتها رسالة تلقيتها من المهندس كمال بيومى، وهو قيادة هندسية مصرية كبيرة ساهمت فى بناء السد العالى، يحمل الآن الجنسية الانجليزية بجانب جنسيته المصرية ويستقر فى لندن، وجاء فى رسالته ما يثير الأسى:

هناك آلاف من المصريين يعيشون في الخارج يتمسكون بولائهم لمصر، رغم القوي الطاردة لهم من مصر، ورغم ما يسببه لهم هذا الولاء من مشاكل مع الدول المضيفة، وللأسف هناك مقالات وتصريحات مصرية من نواب الشعب ومن موظفي الحكومة تطعن في ولائنا، وبالتالي تطعن في وطنيتنا، مما يجرحنا ويؤلمنا بدون ذنب جنيناه، وأن سبب وجودنا بعيدا عن مصر هو إنقاذ أولادنا من الحياة المتردية في التعليم والصحة وضياع فرص العمل المنجز والفقر وضياع الحرية.

للمهندس كمال أقول: الأصل أن التشكيك فى ولاء غالبية المصريين لبلادهم أمر غير وارد، وبرغم أن الدستور المصرى يكفل المساواة بين المصريين فى الحقوق والواجبات، إلا أن العدل يتطلب أخذ الفروق النسبية بين المتنافسين المصريين لشغل أى وظيفة، ذلك أن لكل مصرى نطاقه الحيوى الخاص والمتمايز يشارك به فى بناء المجتمع، فالمهندس غير الطبيب والمقيم غير المغترب.

قضية تعدد الجنسية تتناولها نظريات فقهية مختلفة، فهناك نظرية ترى أن للفرد الواحد جنسية واحدة، وهناك النموذج البريطانى الذى يقبل تعدد الثقافات فى مجموعة دول الكومنولث، وهناك النموذج الفرنسى الذى يدعو لوحدة وتسيد الثقافة الفرنسية فى مجموعة الدول الفرانكفونية، نحن فى مصر بحاجة حاسمة لتحديد موقفنا الدستورى والقضائى والرقابى من هذه القضية، ليستقيم أمامنا أحد معايير تقييم المواطنين، فلو أن صاحب الجنسية المزدوجة تعرض لاختيار قيام حرب أو تعارض مصالح بين دولتين يحمل جنسيتهما، فما هو التكييف القانونى والأخلاقى عندما يزيغ بصره نحو دولة منهما؟.

أخيرا، إن الاضطهاد الذى تمارسه كلا من الدولة الوطنية ودولة المهجر على المواطنين، يدفع الجميع للعمل على التخلص منه، وتظل مصر تمد أياديها مخلصة لكل أبنائها.

Thursday, May 21, 2009

طالب الرضا


بعض الناس لا يرضون عنى، شيخ الحارة وأمين المحافظة ولجنة الأحزاب ووزير الداخلية، فأنا لا أملك بطاقة انتخابية، ذلك بأن الانتظار مهين فى أقسام الشرطة من أجل الحصول على أى بطاقة، ولا أتحمل البحث عن مصداقية المرشحين، وأخشى التعامل مع خطط الحكومة للإدلاء بصوتى الانتخابى.

أنا لا املك بطاقة انتخابية، ولم أفكر فى امتلاك واحدة منها طوال الأربعين عاما الماضية، فقد عودنى الكبار والصغار أن صوتى لا قيمة له، فالقوانين والقرارات فوقية جاهزة، والمرشحون معينون سلفا، شفت ذلك طوال عمرى فى البيت والمدرسة وفى الجامعة وفى الشغل، وقلبى يمارس الحزن دون انهيار، ذلك أن أصحاب الحكومة يدربوننى كل يوم على تجرع الأسى فى صالات الانتخاب.

أنا لا املك بطاقة انتخابية، ولا أفكر فى امتلاك واحدة طوال الثلاثين سنة القادمة، حتى وان أغرتنى الحكومة بترشيحى وإنجاحى فى كل الانتخابات، ذلك أننى لا أثق فى حكومة تسمح لمن يحمل الجنسية المزدوجة أن يتسلل بالأموال والعلاقات ليدخل مجالسنا النيابية ويتاجر بصوتى المكتوم، وأجدنى أمام نوع من المصريين لا ينتمون لنا ويتشدقون فى محافلهم بالنيابة عنا.

الأفراد أحرار فيما يختارون من ولاءات وثقافات، والشعوب حرة فى الحفاظ على ولائها وثقافاتها، هكذا تعطى الدولة العصرية جنسيتها لمن يقضى زمنا معينا على أرضها، سعيا منها لأن تذوب خصوصيته الثقافية فى ثقافة شعبها، هكذا يحكم ولاء الأفراد للشعوب شروط عقلية وأخلاقية، تتلخص فى أن صاحب الجنسيتين هو بالضرورة شخص يتاجر بمصالحه الخاصة فى قضية الانتماء الوطنى، وهنا نطرح قضية فرد مصرى طبيعى عاش ويعيش سنوات بعيدا عن مصر فى خدمة ثقافة واقتصاد دولة أجنبية، ثم يعود لمصر حاملا أكثر من جنسية، أيكون ولاءه لمصر أم ولاءه للأجانب؟.

صحيح أن لدينا خبراء أجانب فى أكثر من مكان، لكن الخبير مأجور على صنعة موجودة أما النائب الشعبى فمنشئ لهذه الصنعة، وعليه فحماية لأمننا القومى لا نسمح لغير المصريين بالخدمة فى قواتنا المسلحة، فكيف نسمح لمزدوجى الجنسية أن يدخلوا مجالسنا النيابية ليكونا مشرعين للقوانين المنظمة لحياتنا؟ قد تكون الإجابة مطمئنة، بأن الأمور فى مصر دائما بيد أبنائها، وقد تكون الإجابة قاتلة، بأن بعضهم يمهد الطريق لأن نعلن انضمامنا ولاية تابعة لدولة أجنبية.

Tuesday, May 19, 2009

عشرة زيادة.. وتنجح


قرأت على النت خطابا من أستاذ جامعى بكلية الآداب جامعة المنيا ضمن خطابات مجموعة بريدية،
كتب فيه:

أن شعارا مرفوعا فى بعض أقسامنا العلمية بالجامعات، يقول ما نصه:
ادفع عشرة (جنيه) زيادة تستلم الكتاب وتنجح،
وتضمن خطابه انه تحت وطأة العوز والحاجة والجوع الأزلى، راح أساتذة القسم العلمى يفرضون سلطانهم على الطلاب يسرقونهم ويجمعون عشرات من الجنيهات سدا للعوز ودرءا للجوع

وحيث أن كلية الآداب من كليات الأعداد الطلاب الكبيرة مثل كلية التجارة حيث أعمل
لذلك كتبت شهادتى التالية:

شهادة

أنا ياسر العدل أستاذ مساعد إحصاء متفرغ
كلية التجارة جامعة المنصورة
لو كتب على الجلوس طالب علم من طلاب الكلية
وفرض على
أن أدرس فى نفس المدرج الذى يدرسون فيه
ونفس المحتوى الدراسى فى مادتى الإحصاء والرياضيات
ونفس منهج التدريس ونفس الكتاب المقرر
ونفس الأساتذة ونفس إدارة الكلية
فان نظرية الأعداد الكبيرة فى الفقر والجهل والمرض
تؤكد وبنسبه 90% أننى سأكون طالبا من الراسبين
وتؤكد بنسبة 10% الباقية أننى سأكون مصريا من الثائرين
هنا المكتوب قدر لا ندفعه، وهذا المفروض سلطة تدفعنا
د. ياسر العدل

وحين نشرت شهادتى على النت جاءنى رد أحدهم يرى أن الحل بسيط فكتب:


يا أستاذنا الفاضل

بدلا من شكواك المريرة بهذا الشكل
أي مشكلة لها حل... بس اعزم وتوكل علي الله
وتحياتي

مع رد كهذا افترض صاحبه أننى رجل ساذج أسعى لحل المشاكل بالدعاء وبالنوايا الطيبة
رايتنى اكتب ردا جديدا للجميع هو:

الأخوة الأعزاء

عن أحوال البلد
البلد دى احنا أصحابها ، لكنا عايشين فيها غرباء، ما لناش فيها غير صوت مكتوم
دى بلد الفاسق، صاحب أكثر من جنسية، طويل اليد، الآكل سحتا والمجنون،
بلد هو ذا يرضي عنه نظام الحكم المأفون

أما عن أحوال الجامعة
فالحكى عنها يطول، وأنا الليلة مشغول وغدا ميت
د. ياسر العدل

Saturday, May 16, 2009

حمّام الهنا


مثل معظم المصريين، آكل وأشرب وأشترى من الأسواق بضائع مصرية، يأكل التجار فلوسى غشا ودعاية وتدليسا، وأكشف رأسى كل يوم بالدعاء على الحكومة والتجار وجمعيات رعاية المستهلك.

بسبب طموحات أسرية فى النظافة لازمة للأعياد والمواسم، وبسبب إعلانات رقيقة لأناس يستحمون فى التلفزيون بالمياه الساخنة والصابون، أصرت زوجتى على اقتناء سخان مياه كهربى صنع فى مصر، وحين دفعت للبائع ثمن السخان أقسم برأس أمه الغالية أن صلاحية السخان خمس سنوات، ووعدنى بأن السخان قوى ليخدم أسرتى سنوات قادمة تكفى لأن تصبح مصر جنة ونعيما، هكذا عدت لمنزلى فرحا حاملا السخان وكيلو موز وتفاحتين وصابونه لزوم البهجة فى بيتنا السعيد.

قبل مرور سنتين على استمرارنا فى النظافة بالسخان، تسربت المياه مليئة بالصدأ والبرودة من جدار السخان وأصبح لدينا جثة صدئة ذهبت بها إلى مركز خدمة الصانع أذكره بكفالة ضمان تشغيله، فقرر خبراء الصانع أن مياه الشرب التى تدخلها الحكومة فى شقتنا وندخلها نحن فى بطوننا، هى مياه مليئة بالأملاح والرواسب أفسدت السخان وحولته إلى الجثة أمامنا، وحين أظهرت دهشتى، قال كبير الخبراء: أننى مستهلك كثير الشكوى ضالع فى مؤامرة تلويث سمعة الصناعة الوطنية، هكذا رأيت خبراء الصانع يضعون شروطا غير واقعية لاستخدام منتجاته، وحين وجدتنى محاصرا بخبراء يحلفون على جودة صناعتهم، وان حظى سيئ مع السخان الجثة، وأن برودة المياه تصيبنى بالجرب والحكة، وأننى مصرى محتاج للنظافة وتكبير الدماغ، اشتريت سخانا جديدا من نفس النوع ومن نفس الصانع وبمثل الثمن، وعدت إلى زوجتى حاملا السخان الجديد مع نصف كيلو كباب وكفته وعشرة قطع من الصابون.

تناولنا غدائنا حول السخان الجديد واكتشفت زوجتى أننا مصريان مظلومان، فبمثل هذا المعدل من الغش التجارى نكون قد دفعنا ثمن السخان مرتين والنصف مقابل صلاحيته للعمل لمدة خمس سنوات، ومن باب الظلم لشخصى الضعيف رأت زوجتى أن قلة البركة فى السخان راجع لكونى واحدا من ثلاثة، أننى لص ثري أغسل أموال جمعتها من حرام، أو أننى ضحية اصطادها تاجر لص يحتكر السوق ويغش فى تجارته، أو أننى مع ضعاف التجار وقعنا ضحايا لصوص أقوياء لا نعرفهم نحن الغلابة، رجال الحكومة وجمعيات رعاية المستهلك يعرفونهم جميعا، يشترون الذمم ويبيعون للجميع بضائعهم الفاسدة.

Sunday, May 10, 2009

دوابنا الثقافية



منذ قرون، اجتمع أصحاب الأمر من رجالنا مع بعض النّساء، وقرروا أن تحتل عائلتنا موقع التفاخر بين البشر، كان رجالنا أكثر التحاما بالطبيعة، يدبّون فى الأرض حفاة ويحتفظون بما يستر أبدانهم، فانعقد أمر تفوّقنا على امتلاك دابّة للركوب.

فى القرن الأول، كنّا نرحل فى الوديان وشقوق الجبال وراء الماعز، طلبا للمرعى وسعيا فى الخفاء وراء دواب الآخرين، فكانت الماعز هى دابتنا التى أبدعنا امتلاكها وركوبها، وبلغ صيت عائلتنا كل القفار، وانتشرت الأحقاد والدّسائس ضدنا، حتى أن كل الولاة أهملوا شكاوانا من هجوم الذئاب على دوابنا، فعاد رجالنا حفاة من جديد، لكن الرّائع أن المأساة لم تكتمل حين فرح كثير من فقرائنا بما فعلته الذئاب، ذلك بأن الماعز لم يركبها غير قصار القامة ممن أورثونا حنكة ضرب الأسافين وزرع الشقاق بين البشر.

فى القرن التالى، كنّا نرحل فى الوديان والصحارى وراء الجمال، طلبا للمرعى وسعيا فى الخفاء وراء دواب الآخرين، فكانت الجمال هى دابّتنا التى أبدعنا امتلاكها وركوبها، وبلغ صيت عائلتنا كل الفيافى، وانتشرت الأحقاد والدّسائس ضدنا، حتى أن كل الولاة تناسوا شكاوانا من هجوم الضّباع على دوابنا، فعاد رجالنا حفاة للمرّة الألف، لكن الرّائع أن المأساة لم تكتمل حين فرح كثير من فقرائنا بما فعلته الضّباع، ذلك بأن الجمال لم يركبها من عائلتنا غير طوال القامة ممن أورثونا قدراً من البلاهة والسّفه.

فى القرن الأخير، وصلنى بعض ما فعله أجدادى، فبعت كل ما ورثته من ماعز وجمال، واشتريت دابّة ثقافية يجرها النفط ومسحوق العبيد، وسعيت وراء أكل عيشى فى تجارة المماليك وأمراء القصور، وأقمت موائد طعام وكشوف بركة، يغشاها الشّحاذون وبعض الفقراء، ونشَرٌتُ مسارح وصالات دُعاء، يملأها روّاد المآدب وبعض صانعى القرار، وذاع صيتى لدى كل البنوك ومخرجى الأزمات، فترصّدنى الحسّاد وقاطعوا الطريق، حتى عرف النّاس أن ولاة أمورنا تحصّنوا مثلى داخل موائد من تبرير وأدعية فى مواسم الغفران من الفكر والبطولة.

الصورة لم تكتمل بعد، فمازال بين عائلتنا من يفكّر ويحمل رأيا وتعامله السّلطة على أنه حاسد وقاطع طريق، يدعو بالتّلف على أعمدة تحمل ثقافة عقلنا العربى، ويشيع بأنها دواب ثقافة لا تحمى غير ولاة أمورنا من بعض الشرر.

المقال نشر فى جريدة العربى الناصرى - الأحد 10 مايو 2009م

Friday, May 08, 2009

سيجار المقرود



بلغنى أن بعض الأثرياء فى مصر، يشربون قهوة غالية الثمن تسمى (كوبي لواك)، سعر الفنجان الواحد منها يتجاوز مائتين وخمسين جنيها مصريا، يتم إنتاجها بأخذ حبوب البن من مخلفات حيوان يشبه القطط يسمى (الزّياد) يأكل حبوب البن ويعيش في جنوب أسيا، تقوم أنزيمات معدة (الزّياد) بتخمير حبوب البن وتفكيك البروتينات الموجودة فيها وإعطائها نكهة خاصة، هكذا يتم جمع مخلفات (الزّياد) بعناية وتقديمها مشروبا للأثرياء والمترفين.

لهؤلاء المغرمين بالفشخرة أقدم نوعا من السيجار المناسب لهذه القهوة الرائعة لا يتجاوز ثمنه خمسمائة جنيه مصرى فقط، انه من اختراعى تذوقه بعض الصحاب من شباب قريتنا، واحتفظت أنا بسر صناعته، هو علاج مناسب للباحثين عن التعالى والغرابة والنشاز، انه سيجار (المقرود).

فى الماضى القريب، هى خمسون سنه خلت، كان لدينا حمار قوى أشهب اللون رمادى الذيل أسميناه (المقرود)، حمار أصيل يقبل التعاون ويرفض السخرة، حين يربت أحدهم على عنقه مع خبطتين حانيتين على الصدر فانه يبدأ العمل الجميل، يقدم خدماته للجميع حاملا الأثقال سائرا بين جنبات القرية تضرب أرجله القوية صدر الأرض بصوتها المميز، وحين ينهره أحدهم دون مبرر فانه يرفض السخرة ويبدأ العمل القبيح، يضرب الهواء برجليه الخلفيتين ويقفز ليلقى بكل أحماله على الأرض وينطلق بعيدا يتمرغ فى التراب ويثير الغبار معلنا انتصار إرادته، هكذا أصبح (المقرود) مثالا لشجاعة مطلوب توريث جيناتها.

إعجابى بحمارنا المقرود، وحاجتى للتدخين وإيمانى بتفاهة مطالب بعض الأثرياء، دفعتنى لاختراع نوع من الدخان أصنعه من مخرجات بطن (المقرود)، بعد وجبات البرسيم الحجازى اجمع من زريبة (المقرود) زبله البيضاوى المتماسك، أضع المحصول فى وهج الشمس سبعة أيام كاملة مع الرعاية والتقليب، وفى عز ظهر اليوم الثامن ابدأ عملية الكسر الحريص لجدار كل زبلة جميلة واخرج منها بقايا البرسيم الناشف المخلوطة بأنزيمات معدة (المقرود)، هذه البقايا أخلطها بنسب معينة مع دخان سجائر قديمة وأوراق ملوخية ناشفة، أضع الجميع فى أوراق كراريس بيضاء وأصنع السجائر بمقاسات محسوبة، هكذا أقمت مع أصدقاء الصبا ولائم تدخين بهيجة بعيدا عن عيون الآباء والأمهات والعقلاء أجمعين.

وما زالت آلاف الحمير المقرودة فى بلادنا قادرة على تقديم خدمة هذا السيجار للمغرمين بالفشخرة.

Sunday, May 03, 2009

أصدقاء جدد



دروب حياتى الرائعة أوصلتنى إلى علاقة نصف صديق ونصف عدو أقمتها مع موظف حكومة أحيل إلى المعاش، على مدى شهور نهرب سويا فى الصباح من طلبات الزوجات ونلتقى عند عربة الفول المدمس الرابضة على رأس شارعنا العامر، نتناول إفطارنا أطباقا من الفول والبصل وقصص الثورة والأولاد وفساد الأنظمة، ونعود لمنازلنا حاملين متعة الغيبة والنميمة مع أكياس الفول والطعمية والخبز الطازج.

صباح أمس وفى وسط شارعنا لقيت الرجل يهم فى سيره متجها إلى عربة الفول، مشيته لا تخفى آلاما يعانيها فى الساقين ومشيتى لا تخفى آلاما أعانيها فى الظهر واليدين، وحين لحقت به أخبرته بأننى أصبحت مثله عجوزا على المعاش، فقال مهنئا كنصف صديق: أحسن يا راجل، الحرية جميلة، فجأة استدار نحوى يهز وسطه ويطوح بكفه اليسرى ويخرق بإصبعه الوسطى هواء الكون المحيط بنا، وواسانى قائلا: بلا حكومة بلا قرف، المهم الصحة يا راجل، وحين طأطأت رأسى موافقا وشكرته كنصف صديق اقترب منى كنصف عدو يتحسس صلاحيتى للحياة، حط عينه فى عينى ووضع يده اليسرى على خصره ثم مال بأذنه نحوى وسألنى بصوت واطئ متآمر: صحتك تمام التمام؟ لم يترك لى فرصة للرد على سؤاله وأسرع يهز وسطه وصدره ويطرح كفيه ورسغيه كراقصه شعبية، ثم لوح بقبضه يده اليمنى وغمز لى بعينه اليسرى متسائلا بصوت فاضح: أنت متأكد أن صحتك تمام التمام يا باشا؟ مرت لحظات التقطت فيها أنفاسى من متابعة حركاته وأجبته باعتبارى نصف عدو: الصحة تمام التمام، وعاوز أتجوز.

صوب الرجل عينيه داخل عينى ووضع سبابته مشيرا إلى وجهى ثم مط وجهه كنصف صديق ونصف عدو وطرح على سؤالا عبقريا من شطرين بينهما وقفة ماكرة: قل بصراحة أنت عاوز تتجوز، وإلا أنت عاوز تتجوز؟.

هكذا أحاطتنى نظرات نصف الصديق ونصف العدو وانثناءات خصرهما وتهكماتهما فقررت أن أرفع عقيرتى بمجون التحدى قائلا للجميع، آه عاوز أتجوز.

نظر نصف العدو إلى عينى وانفتح فمه عن ابتسامات تتشفى بمعرفة الأسرار، ودون أن يترك لى فرصة الإجابة على الشطر الأول من سؤاله المحرج أو مجرد التفكير فى معنى شطره الثانى، باغتنى بالالتفاف حولى ووضع أصبعه الوسطى فى جنبى ودغدغنى قائلا: آه منك يا لئــيم.