Tuesday, April 27, 2010

هوجة الفتاوى


هوجة من الفتاوى الدينية تصدر كل يوم، يعارض بعضها بعضا فى دائرة الحلال والحرام، مثل الفتاوى فى فوائد البنوك وعمل المرأة وتحديد مواعيد الحج وأنواع الزكاة، وحين يسود الجهل وتتدهور الثقافة يتحول كثير من فقهاء أى دين إلى بشر مقدسون يصدرون فتواى مقدسة، ربما يصل تطبيقها إلى خرق لأسس ذلك الدين.

الفقيه العالم والمعروفة آراءه بين جمهور المؤمنين هو إنسان له قدرات محدودة، يحتاج إلى قدرة عقلية يحصل بها على علم معروف ويحتاج إلى سلطه إعلاميه تنشر ما توصل إليه من ذلك العلم المعروف، فالناس لا يعرفون العلم إلا من خلال سلطة عقلية تصنعه وتتآزر معه سلطة إعلامية تنشره، هذا الفعل الجدلى بين علم العالم وبين دعوى السلطة يجعل من غياب الثقافة العلمية سببا فى أن يؤيد البسطاء فتوى فقيه يصاحب السلطان بينما يرفضون رأى عالم يصاحب المنطق.

بسطاء المسلمين فى بلادنا، مع غياب العلم وتخلف الثقافة، يطلبون ما يستهويهم من فتاوى دينية، بعضهم يرى أن فقهاء الوهابية فى الحرم المكى أكثر قدسية من فقهاء السنة فى الأزهر، وبعض آخر يرى أن فقهاء الشيعة فى النجف الأشرف أكثر اقترابا من ولاية الحق عن أهل السنة، هؤلاء البسطاء يتعاطفون، لأسباب غير دينية، مع آراء فقهاء يرفضون من خلالهم سطوة الحاكم صاحب السلطة السياسية الغاشمة والقابضة على زمام أمورهم، هؤلاء البسطاء لا يدركون أن فقهاء الحرم أو الأزهر أو النجف الأشرف أو قناة التلفزيون هم علماء دين حبيس ومقيد لا ينشر دون الاستعانة بسلطة حاكمة لسلطان قادر، سواء كان هذا السلطان ملكا خادما للحرمين، أو رئيسا فى الأزهر، أو إماما معصوما فى النجف الأشرف، أو وزيرا فى التلفزيون، سلطان يعطى بركاته وقوته للفقيه السائر فى ركابه والمؤيد لمنهجه.

إن الفتاوى الدينية نظريات حياة يصنعها فقهاء يسيرون تحت إمرة سياسية لحاكم مستبد دينيا، بينما نتائج العلم نظريات يصنعها علماء متحررون من كل سطوة عقلية لأى حاكم، ومع غياب مظاهر الحرية السياسية والاجتماعية وانتشار الجهل وتخلف الثقافة تنتشر تجارة الفتاوى الدينية الرديئة، يصدرها فقهاء سلطان جائر، فتاوى تطمس قلوب البسطاء فيعيشون فى الخرافة، وتكفر عقول السذج فلا يدركون وجود الأشياء منفصلة عن قوة السلطان.

إن تطورنا الحضارى مرهون بحدوث ثورة تغيير فى مؤسسات الفتاوى الدينية، فالتطور بحاجة إلى فتاوى يعتمد بنائها على فكر موضوعى، يقبل محنة الجدل وينسب جودة الفتوى إلى مدى صلاحيتها لتحقيق رفاهية الإنسان المعاصر.

المقال نشر في جريدة نهضة مصر – الثلاثاء 27 ابريل 2010م

Tuesday, April 20, 2010

إنهم عجزة



لأننى رجل طيب، قررت حضور جلسة افتتاح المؤتمر السنوى الخامس للإعجاز العلمى فى القرآن والسنة بجامعة المنصورة، وفى العاشرة صباح يوم الثلاثاء، الثالث عشر من ابريل الحالى، أخذت طريقى بين الحدائق والمدرجات حتى وصلت إلى قاعة المؤتمرات بمستشفى الأطفال الجامعى.

على باب القاعة التقيت بعدد من الوجوه واللحى والنُقب، طلبوا منى تسجيل اسمى لديهم، قلت: الأمر محتمل فظروف الأمن القومى تطلب ذلك، قالوا إنها وسيلة للتواصل الدعوى فى المستقبل، قلت: القوم لهم أصحاب ومناصرون، طلبوا منى أن أجيب فى ورقة على أسئلة دينية لأدخل سحب قرعة يفوز فيها ثلاثة بعمرة إسلامية، رفضت هذا الطلب لأننى أرفض عمرة تأتينى عن طريق صدفة القرعة، فالاعتماد على الصدفة يعرض الإيمان الدينى للاهتزاز.

جلست وسط القاعة على مقاعد وثيرة ازدحمت بالجالسين، خصص الجانب الأيسر من القاعة لرجال أزهريون من وزارة الأوقاف وخصص الجانب الأيمن لنساء اتشح معظمهن بالسواد والنقب، ومن حولى امتلأت القاع بشباب ورجال انتشرت بينهم اللحى، هى دقائق ودخلت سيدة وقورة لتجلس بيننا، وفى أقل من دقيقة أتى أحد المنظمين للحفل مهرولا وطلب منها أن تجلس بين النساء، نظرت إليه وخرجت من القاعة.

كان أول التعجيز أن انتظرنا أكثر من ساعة ليبدأ حفل الافتتاح، فالقوم وكاميرات التصوير فى انتظار حضور رئيس الجامعة أو من ينوب عنه، لكن أحدا منهما لم يحضر، أخيرا خرج على القاعة رجل دين صحراوى من أهل الجلباب والبترول، انه ممول الحفل وصاحب فضل على تابعيه من المؤيدين، هكذا تحول المتحدثون إلى خطباء دينيين.

أن يجتمع قوم فى ندوة يدعون لدينهم فهذا أمر منطقى ومقبول، لكن أن يدخلوا تحت قبة جامعة علمية بدعوى إنهم يقومون بمؤتمر علمى للأعجاز الدينى فهذا أمر غير منطقى وغير مقبول، فهناك اختلاف جوهرى بين منهج الدين ومنهج العلم فى تناول الظواهر، فالفرض الدينى تسليم بالإيمان ولا يقبل الخصومة، فالخصومة مدخل للبدعة وطريق للكفر، والفرض العلمى تسليم بالخصومة ويقبل الاختبار، فالاختبار مدخل للمنفعة وطريق للمصداقية، هكذا الدين يقين ثابت لا حاجة به إلى معامل اختبار تجريبية، بينما العلم تساؤل دائم لا حاجة به إلى مصادرات عقلية.

جلست ساعة بين الحضور، فتبين لى أن الإعجاز كما يدعون هو منهج دعوى متدنى للارتزاق وتشويه العقول، ودارت فى رأسى بعض الأسئلة، هل تسمح الجامعة بإقامة ندوات دعوية مماثلة لجموع من الآخرين؟ هل الجامعة فى حاجة إلى العائد المادى يأتيها من تأجير قاعاتها بقصد إهانة مناهج البحث العلمى؟ أم أن بعض العاملين بالجامعة يسعون للحصول على عقود عمل وهبات مالية تأتيهم من أثرياء صدفة، هم عجزة حضاريا، وليسوا طيبين؟


المقال نشر فى جريدة نهضة مصر – الثلاثاء 20 ابريل 2010م


Tuesday, April 13, 2010

أشجان موظف


لأننى موظف حكومى بسيط، أتقاضى راتبا شهريا منقوص البركة، يداهمنى الإفلاس بعد أسبوع واحد يمر على استلام الراتب، ولأننى متأكد أن الحكومة تجامل أصحابها، تعطى مدير شغلنا أموالا كثيرة لاستضافة زوار مكتبه، ينثرها على المشروبات والمأكولات وتسفيه طموحات الآخرين، يربت على كتف صغار الموظفين كى يسحب أسرار كبارهم، ويجامل كبار الموظفين كى يحكم تشغيل صغارهم، لكل ذلك طرقت باب مدير شغلنا عند منتصف النهار، فى منتصف الشهر، قاصدا مضمضة عيونى بجمال طلعته، وتسليك أذنى برخيم صوته، واستنشاق عبير الحكمة من سلطته، مازجا وجود حضرته مع رشفات مجانية من الشاى والينسون والطعام ونتف ريش الآخرين.

حين تأكدت أن مدير شغلنا فى خلوة بمكتبه، دخلت على حضرته كالنسيم رقة وهدوءا واستعطافا، أبث صوتى حانيا وأنشر توسلاتى بين الأرجاء، سيدى مدير كل شغل: نحن حمير سلطتكم، ونعاج رضاكم، ودجاج فضلكم، جئناكم طامعين فى براح نعمتكم، وكريم عطفكم، نسألكم حق النشوق، وسرسوب مال نبلل به جفاف جيوبنا، وعملا إضافيا نهبر منه أرتالا من النقود، وسلطة نهبش بها وجه كل طامع، وقليل من الخوازيق والمهاميز وتخريجات القوانين، لزوم إفحامنا للحاسدين والكاشفين الغيظ والماكرين بين الناس.

حين أفقت من هيامى لاحظت جثة المدير تتأرجح عابثة بين طيات كرسيها الفخيم، ترقب أدعيتى مع السقف, وتحصى رجائى على الجدران، وحين أدركت جثة المدير أننا وحدنا وجها لوجه، أفاق المدير على دواعى تشغيل منصبه، بعثر دخان سيجارته حول أنفى، وأجلسنى فضلا منه بجوار مكتبه، وتصاعدت أقواله: أيها الموظف الطيب، نحن نحب الموظفين أمثالك، مطيعون تلهج ألسنتهم بالدعاء لكل مدير، نحسب عليك قدراتك ومواهبك، يا بنى: الغُلب ضارب أوتاره فى قلوب الجميع، فدعنا نجمع القرشين ونربى العيال، نسأل رؤسائنا عملا إضافيا نهبر منه أرتالا من النقود، نحن حمير الوظيفة، ونعاج القانون، ودجاج السلطة.

حين انكشف أمامى تراكم الأسى فى قلب المدير، عاودتنى الثقة فى أن إفلاس الجيوب لا يمنع تحريك الألسنة، فأعلنتها واضحة، أيها المدير الغلبان: نحن الموظفين بشر نولد أحرارا من غير نقود أو ملابس أو وظائف، هكذا تصبح وظيفتنا فى الحياة أن نضع قيمنا على الأرض، انتماء لما نحب وقدرة على ما نستطيع، لا نزرع فى أفئدتنا قبورا تعشش فيها مذلة الخنوع لبشر فاسدين أو قوانين متهرئة.

أيها المدير الطيب اهتف معى: يا بعض الموظفين فى الأرض، يا حمير الوظيفة ونعاج القانون ودجاج السلطة، تحرروا، فأحرار البشر وحدهم يصنعون الحياة الجميلة.


المقال نشر فى جريدة النهضة – الثلاثاء 13 ابريل 2010م

Tuesday, April 06, 2010

حرية الرأى – معزة خالتى نظيرة



ليس التاريخ الفاعل هو ما نستقيه من بطون كتب الحكام أو من حواف أضابير الأعداء، التاريخ الفاعل هو ما يعلق فى ذاكرتنا ويصنع جنبات طرق أخلاقية تسير فيها أرواحنا دون كسر لإشارات المرور، على هذه الطرق تنسى الجماعة قدسية الحكام وفظاعة الأعداء تمهيدا لأن تمزج بينهم فى الأيام القادمة، وتاريخى مع حرية الرأى كان فظيعا وجميلا أيضا.

على مشارف السابعة من عمرى، أبديت رأيى فى جمال فتاة فى السادسة كانت تلعب معى بعرائس الطين فى وسط حارتنا، ولما كان شرف عائلتها يراق على جوانبه كثير من الخناقات والردح والتهديد بإطعام السم لدجاجنا وبقر بطون بهائمنا، أصبح مقررا أن ترحل جثتى فى تغريبة خارج قريتنا، وافتدانى أبى من قرارات الترحيل، شدنى من جلبابى أمام الجموع وكسر على ظهرى كثيرا من أعواد الحطب والبوص غير مكترث ببكائى، من يومها أرى الجميلات خفر يورثن كتمان الرأى وبعض الأورام فى الظهر والرقبة.

على مشارف الحادية عشرة، فقدت خالتى نظيرة معزتها البيضاء، فاستعارتنى من أمى باعتبارى طفلا طاهرا لم يبلغ الحلم يفى بمتطلبات الشيخ عصفور فى عقد جلسة مكاشفة ترصد خطوات العنزة البيضاء داخل القرية، تسلمنى الشيخ عصفور فى حجرته الطينية الهادئة وخافتة الضوء، وبعد قراءات وتعاويذ من الشيخ عصفور أدليت بمواصفات عنزة بيضاء تقف عند دار بعينها، هى دقائق مرت وانتشرت معارك بين خالتى نظيرة مع أصحاب تلك الدار وتدخل كثير من أهل القرية، وبرغم طهارتى وكثرة الماعز الأبيض إلا أن أحدا لم يعثر على رفات عنزة خالتى البيضاء، من يومها أرى أن إبداء الرأى فى جلسات مكاشفة أمر تحيط به كثير من الطقوس تبرر عدم الشفافية.

تخرجت من الجامعة شابا مقتنعا بأن الناس سواسية يحق لها أن تبدى رأيا وتعارضه برأى آخر، وحين أصبحت موظفا حكوميا وأبديت رأيى فى النظام انهمرت على رأسى قرارات نقل إدارية فتوزعت أشلائى منثورة بين جنوب الوادى وشماله، يومها أدركت أن إبداء الرأى عند الشباب جالب للبطالة وطارد للزوجات ودليل اتهام بعدم الانتماء.

حين أصبحت موظفا عجوزا بمؤسسة حكومية ونشرت رأيى فى أدائها فى مقالات صحفية استقبل كبار الموظفين مقالاتى باعتبارها سلوكا معيبا، وتخندق صغار زملائى لوقف هذا السلوك المعيب، يومها أصبح نقد النظام سببا كافيا للطرد من رضا الحاكم وتعاطف المحكومين.
هكذا شق تاريخى الخاص علامات على روحى وجسدى أدركت معها أن صاحب الرأى فى بلادنا مسكين تحفه المخاطر، إلا من رحم السلطان وكان به من المؤيدين.

المقال نشر فى جريدة نهضة مصر – الثلاثاء 6 ابريل 2010م