Wednesday, March 31, 2010

تسابيح ثورية

منذ اكثر من عام ونصف نشرت هذا المقال فى جريدة البديل القاهرية، وتظل الامورفى بلادنا على نفس الوتيرة انها لحن الدوجما الثورية، لذلك انشره مرة ثانية
.
لا أحد يكره التغيير، قليل من الناس هو القادر على التغيير العبقرى، الأزواج يمارسون تدريبات يومية فى الطلاق والخلع، قليل منهم هو القادر على فعلة الزواج من جديد، الأولاد والبنات يتشاكسون على النواصى ومفارق الطرق ويرقصون على حواف العقوق والبر مع الأبوين والأهل والجيران، قليل منهم هو القادر على فعلة الاستقلال الذاتى، معظم الفقراء يسبون الأغنياء وكثير من الأغنياء يتآمرون على الفقراء، قليل هو القادر على أن ينتقل طبقيا بين الفريقين دون ضجيج.

لا أحد من الأسوياء يكره التغيير، قليل هو الذى يسعى لأن يكون التغيير ثوريا ناضجا يضيف وقائع وأحلاما للتحضر الإنسانى، لا أن يكون ثوريا ساذجا ضامر الفكر جدب التخيل، الثوريون السذج فقط هم الذين يرفضون تغيير ثوابتهم، إنهم يصنعون الثورة على أعينهم ويجعلون من أحداثها أصناما وأقانيم للتسبيح وخناجر لوصم الآخرين بالعداء، فعل التغيير لدى الثوريين السذج هو مقطوع آن يتوقف عند لحظة فى الزمن، هو فقط موصول بشعارات تجرى على لسان قائدهم الأوحد وزعيمهم الملهم، يفدونه بالروح حين يسلبهم روح المبادرة تكريسا لفرديته، ويفدونه بالدم حين يمتص دمائهم تكريسا لخلوده ويتحول الثوريون السذج إلى رجعيين جدد يحرسون أصنامهم، هكذا أصبح حال القيادات المصرية طوال ثمانية وخمسين عاما منذ ثورة التغيير فى يوليو 1952م وحتى الآن.

سدنة ثورة يوليو والمرددون لعهودها أفرغوا أفعالها من كل فضل، ولم يتخلص ورثتهم من توجهاتهم أو أدبياتهم، كان مأمولا أن يصبح التعليم للمصريين كالماء والهواء ضرورة وطموحا لكنه الآن أصبح تعليما آسنا وملوثا، كان مأمولا أن يتحرر الاقتصاد المصرى من عناصر الضعف لكنه الآن أصبح اقتصادا تابعا تحكمه قواعد احتكار بغيض وعولمة غاشمة، وكان مأمولا أن يعيش المصريون فى ظل نظام حكم ديمقراطى لكنه الآن أصبح نظام حكم يعتمد حزمة من عيوب كل النظم، انه نظام ديمقراطى من غير أحزاب، ودينى من غير شرائع، وملكى من غير وراثة، وعشائرى من غير ولاء.

سدنة ثورة يوليو ليسوا هم جثث الضباط الأحرار وجثث تابعيهم فقط، إنهم أدمغة تكلست أفكارها عند عصر بذاته وعند ظروف بعينها، من أخطائهم فى التوجهات فقدنا نحن المصريين بوصلة الطريق إلى مشروع قومى فى العلم والثقافة والاقتصاد، وتحولنا إلى مجتمع ممتلئ بالثقوب ينسحب من الحضارة.

هكذا لا يبقى أمامنا نحن المصريين غير جدل التعامل مع موضوعية العلم وإنسانية المعرفة أملا فى بناء مجتمعنا المتحضر.

المقال نشر فى جريدة نهضة مصر – الأربعاء 31 مارس 2010م

Thursday, March 18, 2010

مسارح المنصورة


المجتمعات الجميلة حضاريا تزدهر فيها مسارح جميلة فنيا، ذلك بأن المسرح أب شرعى لكثير من الفنون، فالعرض المسرحى ينقل المشاهد إلى عالم خيالى آخر مواز لعالمه الواقعى وربما يتقاطع معه، عالم يعيش فيه ممثلون بشر من لحم ودم يعرضون فنونهم أمام مشاهدين، وانتشار النشاط المسرحى بين المواطنين ضرورة حضارية تبعث فى الجميع روح راقية على تناول الحياة الإنسانية بذائقة فنية، لذلك فان الدعم الإيجابى من السلطات المحلية للنشاط المسرحى يعتبر أمرا لازما سياسيا واجتماعيا وثقافيا لرفع مستوى التحضر لدى المواطنين، هنا سأتناول الوضع المسرحى فى مدينة المنصورة باعتبارها أحد العواصم الكبيرة لتجمع مصرى كبير.

المنصورة عاصمة محافظة الدقهلية، عدد سكانها يقارب نصف مليون مواطن، وسكان محافظة الدقهلية تجاوز الخمسة ملايين مواطن، وتملك أكبر تجمع سكانى فى مصر بعد محافظة القاهرة، وبها مقر جامعة علمية كبيرة هى جامعة المنصورة، وبرغم صلاحية كثير من الأماكن بالمحافظة للقيام بنشاط مسرحى إلا أن المحافظة فقيرة تماما فى نشاط الفنون المسرحية، ويتوقف أمر نهضتها المسرحية على مدى وعى الكثير من قيادات تنفيذية وشعبية، هذا الوعى يؤثر بالإيجاب على مستوى ثقافة شعب محافظة مصرية أنجبت ابن لقمان وعلى مبارك وأم كلثوم وأنيس منصور وغيرهم من قيادات الفكر والفن فى مصر.

لتنشيط الحركة المسرحية فى مدينة المنصورة وبالتالى فى محافظة الدقهلية فإننا نعرض هنا أربعة مقترحات تعالج مشاكل التمويل والكفاءة البشرية، أولا: بحثا عن أبواب للتمويل المادى فإننا نقترح إنشاء صندوق مالى ذو لائحة خاصة، تقوم إيراداته على ما يجمع من رسوم سيادية وخدمية وتبرعات، وثانيا: من أجل رفع مستوى الكفاءة العلمية للعنصر البشرى، نقترح أن تفتح جامعة المنصورة أبوابها للدراسات الأكاديمية فى الفنون المسرحية، على أن تشجع الدراسات الحرة للراغبين فى هذا المجال، وثالثا: من أجل رفع مستوى الكفاءة الفنية للعنصر البشرى، نقترح أن يوضع نظام علمى لتفرغ للفنانين المتميزين، نظام يكفل التمييز بين الموظف والفنان، ويتخطى بمرونته عقبات الروتين الحكومى، ورابعا: من اجل الاستخدام الأمثل فى توظيف الإمكانيات المتاحة، نقترح أن تستفيد المحافظة بشكل مقنن بكل ما يصلح أن يكون مقرا للتدريب والعرض المسرحى، مثل هذه المقار متوفرة فى المدارس والمؤسسات ونوادى الشباب ومدرجات الجامعة.

الأمر هنا على مثال واضح، فإذا توفرت رغبة فى اللحاق بالتطور الحضارى فلابد أن تمهد السلطات التشريعية والتنفيذية السبل من أجل نشاط مسرحى كبير يعم كل المدن.

المقال نشر فى جريدة نهضة مصر – الثلاثاء 16 مارس 2010م

Wednesday, March 10, 2010

فئران ملونة


كان للفئران الملونة دورً حاسمً فى توسعة دارنا، فحين ملأت فئران البيوت الرمادية جدار دارنا الشرقى بالثقوب انهار الجدار، وانفتحت دارنا على جرن ملئ بأكوام السباخ وجحافل من خنافس وفئران وسحالى صغيرة، بعد شهور نجحنا فى ضم جزء من الجرن إلى دارنا وأقمنا حائطا شرقيا أكثر ارتفاعا، وفى أيام وشهور تالية طاردت عائلتنا فئران البيوت الرمادية بالصيحات وضربات العصى ومواء القطط ومحارق البخور.

وكان للفئران دور فى الحفاظ على ثرائنا، فحين اشترى خالى العظيم سبعة قراريط زراعية زجّ باسم عائلتنا لأول مرّة فى عالم مٌلاّك الأراضى، وفى اليوم التالى لحصاد أول قمح من غيط خالى نشرنا بين الناس أن فئران الغيط السوداء هاجمت القمح، كانت وفرة المحصول وإدعاء هجوم الفئران مبررات كافية لأن نقيم محرقة كبيرة لفئران الغيط، يومها أشعلنا صدر الغيط بالنيران ندفع بها عيون الحاسدين بعيدا عن محاصيلنا ومداراة لفحولة شبابنا.

وكان للفئران دورً حاسم فى إنجاب وريث شرفنا الرفيع، الولد الفار ابن عمى الكبيرّ، فحين ضربت العنّة كثيرا من رجالنا، أسرف عمّى الكبير فى تناول لحوم الهدهد وزيت العنبر وحلل التمساح ومطاردة الغوازى، ومع ذلك ظل صلب عمّى الكبير بليدا لا ينجب الذكور، فأجمع كثير من الطيبين والشامتين على أن يستعين عمى برجل فى المدينة يجلب البخت، وفى اليوم الموعود وضع الرّجل فأرا أبيض اللون ومر به قريبا من صندوق أوراق البخت، ثم ضغط على بطن الفار بخفّة، فالتقط الفأر الأبيض ورقة بخت أخذها الرجل وفتحها ليعلن على رؤوس الأشهاد أن عمّى أصبح فحلا كبيرا، بعد سنوات وفى حدث غير مبرر أنجب عمىّ الكبير ابنه الوحيد وأسماه الفار.

كانت شقوق فئران البيوت الرمادية، ومحرقة فئران الحقول السوداء، وأوراق فئران البختُ البيضاء، بداية لأن يمسك الناس بسيرة عائلتنا، نسكن فى بيوت مليئة بالشقوق، ونعيش فى باطن الأرض ونتقافز بين الجسور، نقرض أوراق الفكر ولا نقرأ ما بين السطور، وتحمل خلفتنا أسماءً للفئران.

منذ أيام شاهدت متحدثا حكوميا فى ندوة إعلامية، كان الرجل يعيش فى جلد فأر، أذناه طويلتان تبتعد أطرافها عن رأسه، عيناه جاحظتان سريعتا الدوران، يتكلم عن ألوان من الناس يعيشون فى الجحور وتنهار عليهم حوائط البيوت، وتساءل كيف للمصريين أن يتخلصوا من فئران السياسة والاقتصاد والثقافة؟ وثب إلى صدرى فخر شديد بأن صيت عائلتنا يضرب الآفاق، وأن فئرانا ملونة ترفع بيوتنا وتحمى ثرواتنا وتدير صناعة مستقبلنا الرائع.

المقال نشر فى جريدة نهضة مصر الثلاثاء 9 مارس 2010م

Monday, March 08, 2010

غربتنا الدينية

فى بحث علمى عن أحوال المصريين، عرض فى المجلس الأعلى للثقافة، تم طرح سؤال على عينة عشوائية من المصريين، ما هى الدول الأكثر التزاما بالدين؟ هكذا كان السؤال مبهما غير واضح التعريف ليدلى المبحوث برأيه معتمدا على انطباعاته الأولية عن تعريف الدولة والدين والالتزام، ويمس قناعاته بأن الدين منهج إيمانى يرسم للإنسان طريقا لتحقيق قيم أخلاقية لا يدركها إلا بالرضى، غالبية أفراد العينة رأت إن الدولة المصرية بعيدة عن الدين، بعضهم يرى التدين فى الدولة السعودية وفريق يرى التدين فى دولة أمريكا وبقية تؤكد وجوده فى دولة الصين.

ليس واردا هنا أن ندرس الحياة الاقتصادية والاجتماعية فى دول غربة يبحث فيها المصريون عن حلم انتماء لوطن، فقط نحن نحاول تفسير هذه النتيجة الفاجعة والهادمة لمبررات الانتماء الوطنى، فنتيجة البحث تقسم غالبية المصريين إلى قسمين، قسم يعيش داخل مصر متعايشا مع واقع متدنى حضاريا، وقسم آخر يعيش فى غربة خارج مصر تدفعه هجرة عمل أو هروب مقدس.

غالبية المصريين بالداخل لا يشعرون بالانتماء للوطن، يعيشون غرباء سياسيا وجوعى اقتصاديا، يصارعون موجات فقر وتخلف، يفتقدون رموزا حيا للقدوة والمثل العليا، يختصرون الدين فى أدعية ووعود غير واقعية يبثها فى روعهم مناور سياسى هنا أو شيخ هناك أو كاهن فوق الرؤوس، هكذا يدفع الإجهاد السياسى والاقتصادى بالمصريين لأن يجلبوا صورا مقدسة للدين من خارج مصر.

غالبية المصريين من المهاجرين فى دول الغربة، تحسنت أحوالهم الاقتصادية، وأصبح مبررا أمامهم أن يختزلوا دور الدين فيما يحققه للفرد من منافع مادية، هكذا أصبحت دولة السعودية أكثر تدينا من دولة مصر، إنها دولة غربة تعطى للمغترب منافع مادية أكثر وتصيبها مسحة من قداسة دينية، وكذلك أصبحت دولتى أمريكا والصين أكثر تدينا من مصر، فتقدمهما الحضاري من منتجات مادية ودعاوى حرية جعلت منهما نبراسا للتدين الجديد، هكذا أصبح مبررا لغالبية المصريين أن يعيشوا غربة دينية داخل مصر ويبحثون عن بديل قداسة وتدين فى بلاد الغربة، إنهم لا يستطيعون نقد الأوضاع داخل مصر ضعفا وهلعا، ولا يستطيعون نقد أوضاع الخارج تقديسا وطمعا.

نتائج هذا البحث العلمي الجاد، تشير إلى ضرورة تغيير الخطاب الدينى السائد فى مصر وتحويله من أدعية وتعاويذ إلى توجه علمي له نوازع روحية يسعى لتحقيق منافع حضارية للناس.

Tuesday, March 02, 2010

حادثة انقلاب

حين أحصيت فى الوجوه عدداً مناسبا من التحيّات والابتسامات وعلامات الوداع، أدرت محرك السيارة، وانطلقت أقودها متباطئا ومناورا ومتسابقا، أشق طريقى غندورا وسط انبهار الجموع، متجها إلى مدينتى البعيدة، ممنيا نفسى بطيب اللقاء مع الطريق ثم الزوجة والأولاد.

طريق الإسفلت ناعم والسيارة مطيعة، واخضرار حقول البرسيم يشد زرقة السماء إلى اتساع الأفق، وأشجار الكافور تلقى بظلالها على الطريق فاتحة بين السحب كوات من شمس شتاء حانية، فتحت زجاج السيارة قليلا فتسرب هواء طيب معبأ برائحة الحقول، وانتعشت فى رأسى أحلام ومواقف منتقاة من زمن جميل، وظلت الموسيقى تنساب حولى.

فجأة لمحت من خلفى سيارة باهرة الأضواء تأتى مسرعة، تشق الريح برعونة وتمرق بجوارى، انها رعناء تسارعت خلفها سيارة أخرى أكثر رعونة، تشاكس الطريق والسيارات وتحاول اللحاق بالأولى كأنهما فى سباق محموم، فجأة انحرفت الرعناء إلى أقصى اليمين تقفز من نهر الإسفلت إلى حقل برسيم مجاور للطريق، هكذا وجدتنى أمام حادثة انقلاب.

حين وصلت سيارتى لمكان الحادث، كانت الرعناء قد انقلبت مرتين واستقرت على ظهرها تدور عجلاتها فى الهواء، وعلى جانبى الطريق توقفت سيارات عابرة فتحت أبوابها وخرج ركابها مفزوعين، هى ثوان مرت واشتعلت النار فى الرعناء المقلوبة، وظلت بمن فيها ينتظرون النجدة.

حين فكرت فى تقديم يد المساعدة تذكرت أشياء وأشياء دارت بينى وبين الجميع، كراهيتى لضابط شرطة أجبرنى على تغيير طفاية حريق لسيارتى رغم صلاحيتها، احتقارى لمحامى يتاجر فى ملفات حوادث الطرق، حنقى على مسئول تحرش بأستاذ جامعى حاول إبداء رأى سياسى مخالف، اعتقادى بأن من يملكون سيارات فارهة قادرون على تكاليف العلاج من آية حوادث، إنهم يدفعون من خزائنهم ومن أموال الدولة وحين تفرغ خزائنهم يملأونها من دمائنا ويسحقون حبات كرامتنا، ومعرفتى بقصور أجهزتنا الحكومية فى إدارة الكوارث، وان الكوارث فى بلادنا تتكالب على رؤوس المجهدين والغلابة، هكذا عضنى الإيمان الشعبى العام بأن تبرعى للشهادة على ما حدث سيدخلنى فى دوائر تعذيب على يد سلطة غبية ترانى مجرما طول الوقت، وتحاكمنى على اعتبار أننى القاتل الوحيد لكل صنوف الحياة على الأرض، وأصبح منطقيا أن اتخذ قرار الابتعاد.

هكذا تسربت مبتعدا عن موقع الحادثة، وتسرب معى كثير من عابرى الطريق وأهل القرى، يضمون شفاههم ويلوون أعناقهم، وواصلت بين الجموع طريقى حاملا سؤالا جديدا لم أعرف له إجابة صريحة، كيف لمواطن شهم مثلى فى هذه البلاد، أن يرى سيارة يصيبها حادث انقلاب ويتركها تتلوى دون مساعدة؟.

المقال نشر فى جريدة نهضة مصر - الثلاثاء 2 مارس 2010م