Thursday, May 26, 2011

عن الدولة المدنية - م



فى البحث عن حلول لمشاكل الجماعة السياسية يدور الحديث عن نظرية الدولة المدنية، أول الخيط فى هذا الموضوع هو الإنسان الفرد باعتباره الوحدة الأولية للجماعة السياسية، والإنسان الفرد يتناول صراعه مع الحياة فى دوائر زمنية ثلاث تتداخل فيما بينها، دائرة ماضى يعرف بعضا عنه بالنبش فى ذاكرة احتمالية يطغى عليها الحدس الإيماني، ودائرة حاضر يعيشه بحواس تطغى عليها المعرفة العلمية، ودائرة مستقبل يصنعه بأحلام يطغى عليها الحدس الإيماني مرة أخرى، ولفهم السلوك السياسى للإنسان يلزم التفرقة بين الإيمان والعلم.

الإيمان منهج ذاتى فردى لتفسير العالم يعتمد على الحدس والأحلام والمصادرات العقلية، فالإيمان بأن البشر قد خلقوا من نطفة حصان يلزم تفسير الوجود البشرى بناء على مصادرة وجود هذا الحصان، والإيمان بأن آدم أبو البشر يلزم تفسير الوجود البشرى بناء على مصادرة وجود آدم، والإيمان بأن لون دم البشر يختلف من دم متفوق أزرق إلى دماء أخرى دون ذلك يلزم للجنس الأبيض صاحب الدم الأزرق مصادرة التفوق على باقى الأجناس، هكذا تتعدد التفسيرات بتعدد المصادرات، هكذا يبقى الإيمان كمنهج فردى صالحا فى نظر المؤمنين لتفسير الأحداث فى الماضى والحاضر والمستقبل، هذه الصلاحية مستمرة بقدر ما يحققه الإيمان من مصالح فردية للفرد المؤمن.

العلم منهج موضوعى جماعى للمعرفة يعتمد على البديهيات العقلية والحواس الغريزية فى تفسير وفهم العالم، تتساوى عنده الفروض مع المصادرات ويقبل مناقشة الجميع، العلم منهج يسمح للفرد البشرى بتخزين المعرفة ونقلها إلى غيره من البشر متجاوزا إمكانيات الأفراد الخاصة والمتباينة بسبب حياتهم فى موطن جغرافى بذاته أو قبيلة اجتماعية بعينها، هكذا يبقى العلم كمنهج جماعى هو المنهج الأكثر ديمقراطية لتفسير كل من الماضى والحاضر واستشراف المستقبل.

لأن الإيمان منهج ذاتى فردى فهو لا يقبل الاعتراف بمنهج الآخر فى المعرفة حتى ولو قبل إلى حين فكرة التصالح مع ذلك الآخر، فكل دين هو منهج إيمانى ناسخ لغيره من الأديان، هكذا لا يمكن تعميم الدين على جميع البشر كمصدر وحيد لمعرفة الحياة والتعامل معها، ويبقى أن المنهج العلمى منهج معرفة موضوعى يصل إلى الجماعات المتباينة، ويعترف بوجود مناهج أخرى محتمله للبحث عن المعرفة.

الآن فى العصر الحاضر يعيش البشر فى كيانات سياسية يتعاظم حجمها من أسرة إلى عائلة إلى قبيلة إلى الدولة، احدى النظريات لتفسير وجود الدولة هى نظرية العقد الاجتماعي، ويرى أصحاب هذه النظرية أن الدولة كائن مستقل جرى تعاقد بينه وبين الجماعات المكونة له على ضمان حماية الحريات وتأصيل الحدود بين مجموعات تتفق على الحقوق والواجبات يربطها أساس قانونى من الأهلية والكفاءة، هذا العقد يوضع فى دستور فوقى ثابت تنبع منه كافة القوانين التى تقود النسق المعرفى للجماعات المكونة للدولة، هذه النظرية تفترض الكفاءة والأهلية فى الجميع وتضعهم فى مواجهة حرية العمل بالدستور.

هناك نظرية أخرى تفسر سبب وجود الدولة، وترى أن حب الإنسان الحياة هو الأساس لوجود الأشكال المتباينة من صور الأسرة العائلة القبيلة الدولة، هذه النظرية تراعى حركة الجدل البشرى مع الحياة باعتباره أخذا وعطاء، وترى أن دستور الدولة عمل وضعى يمكن تعديله كلما أقبلت المجموعات على أمر جديد, نظرية حب الحياة هذه لا تقيم وزنا للفصل التعسفى بين حرية الجماعة وبين حرية الفرد، وترى أن جدل الإنسان هو الذى يضع حد للتوازن بين البشر، هذا الجدل قائم على محصلات قوى ليست بالضرورة متصارعة، وعليه يصبح للشمول الفكرى تمارسه الجماعة الغالبة فى حالة جدل مع التكلس الفكرى تمارسه الأقلية، جدل الإنسان يتخلص من الشمول والتكلس السياسيين.

الآن فروض التقدم فى البيئة الحضارى للجماعة السياسية، تتطلب وجود دولة مدنية لها دستور يفصل بين أديان الجماعات والطوائف وبين سلطات الدولة، حيث يكون للمواطنين حريات الانتقال والاعتقاد والعمل فى دولتهم، ويكون للدولة سلطات مدنية على مواطنيها تنسق بين حرياتهم على أسس من العدل والمساواة، دون تمييز بسبب لغة أو ثقافة أو دين أو جنس.

المقال نشر فى جريدة العربى الناصرى، الأحد 15 مايو 2011م