Saturday, November 29, 2008

بحوثنا العلمية واللغات الأجنبية



يعانى غالبية طلاب الدراسات العليا وكثير من أساتذة جامعاتنا تدنى مستوى المعرفة بلغات العلم الحديث، سواء مع اللغة العربية باعتبارها لغة قومية تحمل وعائنا الثقافى أو مع اللغات الأجنبية باعتبارها أدوات بحوث علمية فى كثير من العلوم.

من المعروف أن اللغة الخاصة لأصحاب مهنه أو حرفة ما هى كائن حى له خلاياه الصغيرة من مفردات وكلمات ومعانى تربطها نظم بناء من قواعد وصرف ونحو, وتنمو اللغات الجزئية فى تصاعد وتطور بين أصحابها ليتولد من مجموعها لغة عامة للتواصل المعرفى بين فئات المجتمع الواحد، وفى النهاية تمثل مجموعة اللغات الخاصة حصيلة المجتمع من لغة عامة يتواصل بها حضاريا مع بقية المجتمعات.

إن تدريس اللغات الأجنبية فى جامعاتنا يعانى من وقائع تخلف كبير من نقص فى الإمكانيات وخبث فى النوايا، ومثال ذلك ما يحدث فى كليات التجارة التى يتخرج منها حوالى أربعين ألف طالب سنويا, الطلاب يحفظون بضع صفحات بالإنجليزية فى السنتين الدراسيتين الأولى والثانية فقط، ويقوم بالتدريس والتصحيح بعض المحالين إلى المعاش من التعليم التجارى، وتكون النتيجة أن غالبية الخريجين يجهلون الإنجليزية فضلا عن ضعفهم المقيت فى معرفة اللغة العربية، وهذا الواقع المر ينطبق على كثير من الأساتذة فى سلك التدريس بجامعاتنا.

الغالب الأعم بين طلاب الدراسات العليا فى جامعاتنا أنهم يتواصلون مع أساتذة ضعاف فى معرفتهم باللغات الأجنبية، وتنشأ بين الجميع بيئات صالحة للانحراف عن روح ونص القانون فى تسجيل ومنح الدرجات العلمية، الطلاب يهربون من التعامل مع الأبحاث باللغات الأجنبية والأساتذة يتكاسلون عن نشر أبحاثهم باللغات الأجنبية، هكذا يهرب الغالبية من إنتاج أبحاث جادة ينقصها معرفة اللغات الأجنبية باعتبارها وعاء حضاريا للعلم الحديث، وتتراكم فى جامعاتنا شهادات علمية نتداولها كأنها شهادات الماجستير والدكتوراة وهى لا تزيد عن كونها أوراقا عديمة القيمة عند محك الاختبار العلمى.

هكذا لوقف التخلف المعرفى باللغات الأجنبية بين طلاب العلم والباحثين فى بلادنا، تلزمنا آليات حديثة وعلمية لزيادة فاعلية جهات التدريب وعدالة تنفيذ القوانين البحثية على جميع الباحثين فى معرفة اللغات الأجنبية حتى ولو اقتصرت الأبحاث العلمية على علوم اللغة العربية أو علوم الدين الإسلامى.

Thursday, November 27, 2008

البحث عن أرباب للثقافة

تلقيت اليوم على بريدى الالكترونى خطابا فيما يلى نصه

From: ???-335@hotmail.com
السلام عليكم : Subject
To: yassadl@yahoo.com
Date: Thursday, November 27, 2008, 1:51 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم دكتور ياسر
أنا كنت أحد الطلاب الذين نالوا شرف التعلم على يديك، وأنا كنت من أشد المعجبين بكلامك وأسلوبك فى التفكير، اطلب من حضرتك كتابه موضوع يظهر وجهة نظرك فيما يحدث حولنا فى العالم مثل الأزمة المالية العالمية والكساد الاقتصادى المحتمل وتأثيره على مصر وعن إمكانيات مصر المتواضعة فى مواجهة تلك الأزمة وأرجو ألا يخلو موضوعك عن تصريحات المسئولين المطمئنة ظاهريا ولكنها تحمل فى طياتها كوارث وقنابل موقوتة ومواضيع أخرى أود أن تسردها بأسلوبك وهى القرصنة فى خليج عدن وحالة الشتات العربى والوضع فى السودان والأهم انحطاط الوزن والثقل المصرى على المستوى الدولى والمحلى، وأخيرا يا دكتور ياسر، عندما كنت أحد طلابك فى الفرقة الثانية بالجامعة كنت دائما أفخر أنى مصرى ولكن الآن وبعد أن تخرجت فى عام 2004م وسافرت للعمل فى احدى الدول النفطية وجدت ما لا يحمد عقباه وهو أن المصرى رخيص ولا ثمن له، فأنت تغفل أن نظره هؤلاء الخليجيين لمصر والمصريين ليست سوى نظره صاحب عمل لمجموعه من المرتزقة، فما الذى جعل الأمور تصل إلى هذا الوضع المتدنى؟
شكرا دكتور ياسر

=============

أمام هذا الخطاب رأيتنى فى مواجهة الاختيار بين ثلاثة من طرق التعامل، أولها : أن أرد على صاحبه بالشكر والمواساة باعتباره امتنانا شخصيا من أحد طلابى القدامى ، والثانى: أن أهمل الرد على الخطاب باعتباره خطابا ساذجا تصلنى عشرات مثله من بعض قرائى، والثالث: أن اعتبر الخطاب مجرد إشارة إلى موقف عام يعترى منهج تحصيل المعرفة لدى الأغلبية من شبابنا، هذا الموقف يحتاج منى لإبداء رأى عام، ووجدتنى اختار الطريق الثالث وكتبت ردا على صاحبى هو التالى:
==============

شكرا على اتصالكم.

أيها الصاحب، لماذا تصر على أن تبقى طفلا ساذجا؟ تبحث عمن يفكر لك ويفسر لك ويكتب نيابة عنك، لماذا لا تحاول بنفسك أن تجيب على الأسئلة الواردة فى خطابك؟، أن تجيب بطريقتك وبما تملك من أدوات تتميز أنت بها عن الآخرين، فأنت بالضرورة صاحب دور يفرضه عليك مجرد وجودك فى الحياة، لكن جهلك بإمكانياتك وعدم رغبتك فى رفع هذا الجهل يبقيانك بعيدا عن تعديل نفسك وإصلاح الآخرين.

يا صاحبى، حاول بنفسك أن تبذل جهدا عقليا وقلبيا للإجابة على أسئلتك وكثير من الأسئلة الوجودية المشابهة.
يا صاحبى، حاول أن تتعرف على العالم بنفسك فأنت عضو فاعل فيه، ولا تبقى حراكك ساكنا مثل معظم أترابك الغائطين فى ثقافة العرب المتخلفين، ينعمون بتخلفهم، ويمسكون دون جهد بمبررات غير علمية تضفى عليهم قناعة ورضى بما هم فيه من تخلف.

يا صاحبى، لا تفعل مثل غالبية الأهل فى بلادنا، يجلسون مكممى العقول يتبتلون أمام أصنام تقدسها سذاجتهم، يجلسون أمام الصحف والكمبيوتر والتلفزيون وشيخ الجامع وقسيس الكنيسة وكاهن المعبد وكاتب الأحجبة وبائع التعاويذ والبوق الحزبى والوزير والخفير ورئيس الدولة، يتسمرون فى بلاهة أمام أصنام بغير قداسة، لا يشقيهم حس إنسانى ولا يؤرقهم تخلف حضارى.
يا صاحبى، لا تجلس أمام أقداسنا كحيوان أعجم ، يلقون عليك كلاما ساكتا تملأ به دماغك الفارغ وتملا من دونه عقلك البدائى ببول الآخرين ونفاياتهم.
يا صاحبى، لا تكن عربيا ذليلا متخلفا تفيض على من حولك بؤسا وعبودية ولؤما وبكاء وأدعية بالنجاة من آلهة لا ترحم الجاهلين.
يا صاحبى، حاول أن تفكر بنفسك لتعلم بنفسك، وابحث لك عن أرباب حقيقية تعرف الثقافة وتقودك للتحضر.
أخوكم ياسر العدل

Sunday, November 23, 2008

علاج أهل الجامعة

نظام العمل فى جامعاتنا ينتج وقائع مأساوية تؤكد فسادنا العام وتضع أهل الجامعة تحت سطوة أمراض اجتماعية واقتصادية ونفسية تتطلب العلاج.

بسبب جو الفساد العام ولصالح أصحاب النفوذ، لدينا حالات من التدخل فى نتائج الشهادات العلمية، بكالوريوس ودبلوم وماجستير ودكتوراه وترقيات علمية، ولدينا حالات من التراخى والتحايل فى تطبيق مواد صريحة من قانون تنظيم الجامعات يتم بموجبها تحويل معاون هيئة التدريس إلى وظيفة أخرى غير علمية إذا قضى خمس سنوات دون حصوله على الشهادة العلمية الأعلى لشهادته، ماجستير أو دكتوراه، مع التحايل طالت المدة عند بعضهم لأكثر من خمس سنوات فى إعداد رسالة الماجستير بينما اصل المدة فى القانون لا تزيد عن سنتين، وطالت المدة عند بعضهم لأكثر من ثلاثة عشر عاما فى إعداد رسالة الدكتوراه بينما اصل المدة فى القانون لا تزيد عن ثلاثة أعوام، ومع التراخى يبقى كثير من أعضاء هيئة التدريس أكثر من خمس سنوات دون تقديم أبحاث للترقية، بعضهم يصل إلى سن المعاش دون ترقية.

نظام العمل اليومى بجامعاتنا يضع أعضاء هيئة التدريس ومعاونيهم أمام ضغوط أخلاقية واجتماعية واقتصادية يتعرضون معها للإصابة بأمراض نفسية، بعضهم يصيبه اكتئاب نفسى أو تبلد ذهني أو تضخم فى الذات إحساسا بالعظمة أو تصاغر فى الشأن إحساسا بالمهانة، ويحمل مبررات الفشل فى علاقاته الاجتماعية، يتزوج أكثر من مرة ويفشل فى الزواج كل مرة، بعضهم تزوج ثلاث مرات، يسافر للخارج أكثر من مرة ولا يشعر بالغنى فى كل مرة، بعضهم قضى احدى عشرة سنه فى دول النفط، ومع كل هذا الضعف النفسى والأخلاقى يصيب البعض فان نظامنا الجامعى يسمح لهذا البعض أن يصبح أستاذا فى علم ومصدرا لخلق وصاحبا لقرار نافذ، هكذا تعيش فى جامعاتنا قيادات مشوهة علميا ونفسيا وأخلاقيا.

نحن فى حاجة ماسة إلى إجراء فحص دورى على أعضاء هيئة التدريس بالجامعات لاكتشاف وعلاج المرضى النفسيين من بينهم، هكذا ننقذ المجتمع من مرضى يحملون حصانه تعاملنا معهم باعتبارهم حاملين لشهادات علمية ولكن معظمها مضروب، ويحملون حصانه عطفنا الأخلاقى عليهم باعتبارهم مرضى نفسيين ولكن لا يشعرون.
المقال نشر فى جريدة العربى الناصرى - الأحد 23 نوفمبر 200م

Tuesday, November 18, 2008

ديمقراطية . . النّت

خلال العشرة آلاف سنه الأخيرة من تاريخ البشرية مر الإنسان بأربع ثورات اجتماعية كبرى غيرت من حيثيات وجوده الثقافي والاجتماعي.

الأولى ثورة زراعية قامت على ضفاف الأنهار والوديان الخصيبة، ساومت الإنسان على استقراره فى وطن, يحرث الأرض ويضع البذور وينتظر المحصول, هكذا دخل الإنسان فى علائق الدولة المركزية بما تحويه من قيم اجتماعية وثقافية، والثانية ثورة البخور والتوابل والحرير والفتوحات الدينية وما تبعها من تقصير للمسافات عبر القوافل وطرق التجارة ونشوء إمبراطوريات تتمثل قوتها فى بؤر من قلاع وحصون عسكرية عابرة للقارات، والثالثة الثورة الصناعية وما تبعها من ظهور الإنسان الماكينة وما صحبه من مشكلات أدت لنشوء ثقافة حقوق الإنسان وتفتيت للإمبراطوريات السياسية وظهور الإمبراطوريات التجارية، والرابعة ثورة الاتصالات الحديثة وما ترتب عليها من عولمة إلغاء المسافات بين القارات وتضييق الفروق بين الثقافات، فيها تقلص دور الدولة وأصبح للأفراد حرية أوسع فى المعرفة وحياد أكبر تجاه الثقافة الوطنية.

ثورة الاتصالات صنعت مجالات جديدة لديمقراطية تخيلية يشقى بها الضعفاء ممن لا يشاركون بالعلم والثقافة فى صنع الحضارة، تتركهم ضعفاء يعيشون ديمقراطية تخيلية حين تفرغ البرامج الإعلامية الحوارية العابرة للقارات والثقافات رغباتهم فى إبداء آراء مغايرة، وتمارس أحزابهم الضعيفة ديمقراطية تخيلية فى معارضات سياسية داخل برلمانات صورية، ويمارس جيلهم الجديد ديمقراطية تخيلية فى ساحات نقاش على الإنترنت, حيث ينشئ الفضاء التخيلى للانترنت نوعا من الانتماء يقاوم به الأفراد تسلط الدولة ويوحى بالتخلص من ضغوط الثقافة المحلية، هذا الفضاء التخيلى للإنترنت يكرس وجود نوع من الديمقراطية المزيفة تلهى كثيرا من الناس عن معايشة واقعهم اليومى، إنها ديمقراطية النت.

هكذا يبقى التحدى الأكبر للإنسان المعاصر متمثلا فى مدى قدرته على التفاعل الايجابى مع ثورة الاتصالات, ففى ظل الدول غير الديمقراطية يعيش المواطنون الجانب السلبى من ثورة الاتصالات, يعيشون وهم التفاعل والمشاركة السياسية، إنهم يجترون أمنياتهم فى التخلص من الطغيان دون فعل ايجابى لتغيير هذا الطغيان، وبالتالى يتوقف أمر النهوض بالمجتمعات العصرية على مدى فعالية الإرادة السياسية للدولة ومؤسسات المجتمع المدنى فى إنشاء ودعم الوجود الحقيقى لديمقراطية حقيقية يعيشها الفرد والمجتمع.

Sunday, November 16, 2008

حديث منزلى

الشخص الوحيد الذى أستطيع أن أقرفه هو زوجتى، أخرج عينيها بعشرات من الطلبات والأوامر والنواهى المستحيلة، أعدها برئاسة مؤسسات ووزارات وجامعات وامتلاك قصور وخدم، ومع كل هذه الطلبات والوعود أعجز عن مناولتها هدمة أو كسرة خبز أو شربة ماء، فتلقانى ببكاء وشتائم وشكوى للأهل والجيران وعابرى السبيل، هكذا أفعل ما افعل مدركا أن الأحلام الكبيرة لا يقدر على تحقيقها فقراء يشحذون اللقمة والهدمة، وأن العجز يواكب عبيدا لا يسعون نحو الحرية.

ذات مرة مازحتنى زوجتى ما الذى يجعل رجالنا فى مصر أزواجا طغاة متسلطين داخل بيوتهم، عبيدا فى مجتمع يحتاج لأحرار؟ فأجبتها دون مزاح: نحن معظم رجال مصر لدى كل منا سبعا من جليل الصنائع، نغنى فى الحمامات وقادرون على التطريب، نشترك فى معاجن الطين وقادرون على إنشاء مصانع للطوب والسيراميك، نحصل على الإعدادية وقادرون على الإمساك بالدكتوراه وجوائز التفوق، نسافر لأراضى الغربة وقادرون على أن يكونوا شيوخا وأصحاب معالى، نتاجر فى النخالة وقادرون على امتلاك المطاحن والمخابز، نركب برادع الحمير وقادرون على إدارة مصانع السيارات والطائرات، نفكر فى الزواج وقادرون على إنجاب الذكور والإناث، ومع كل هذه الصنائع فان حظنا فى الحياة قليل.

نحن معظم رجال مصر، تغشانا سلطة قهر وفساد حكم، لا نملك ظهرا من خال أو نسيب يجلسنا فى حجر رعايته، يرصنا حبات فى عقد منظومته، يجمع ضعيف قدراتنا ويضخ فيها قدرات الآخرين، فنصبح فاهمين عباقرة ومتكلمين مفوهين وقادة حكماء، تصب مواهبنا مالا وسلطة فى بطون الأهل والصحاب، وتفيض دخولنا فتاتا يملأ جيوب الأتباع والمريدين.

نحن معظم الرجال فى مصر، جوعى لا نتكلم ولا تدخل الحكمة أبواب عقولنا، تتلعثم ألسنتنا عند الفطور بين خبز وبصل، ونخشى الكلام حتى أخر النهار، يأتينا غدائنا ناقصا ونكمل شبعنا بالماء، ونصمت بقية الليل نقضى عشائنا فى النوم، عاجزون عن إطعام أنفسنا.

يا زوجتى الطيبة، وحياتنا مأساة نعيشها فى مصر، ينخر الفساد فى عظامنا، وتبلى الأساطير رباط عقولنا، وتحبس قوانين الطوارئ دبيب أنفاسنا، كيف لنا إذن أن نكون رجالا عادلين فى بيوتنا، ودودين مع زوجاتنا، عطوفين على أولادنا، عظيمى القيمة بين أهلنا، أحرارا طول الوقت؟.

Monday, November 10, 2008

الدمايطة الجدد

فى شهر مايو الماضى قابلت صديقا ابدى اهتماما بالحركة الشعبية لمقاومة تلوث البيئة فى مدينة دمياط والتقت رغباتنا على زيارة المدينة، وحين ركبنا سيارتى القديمة هاجمنا صوتها الفاضح وانتابتنا رجفة الانطلاق وقليل من الحذر، وغادرنا القاهرة فى التاسعة صباحا لنقطع حولى 200 كيلومتر شمالا إلى دمياط.

اسمع يا صديقى، فى زياراتى السابقة لدمياط رايتها مدينة تقع على الشاطئ الشرقى لنهر النيل، كتلة من المبانى غير المنظمة تتخللها حارات وشوارع ضيقة تنتشر فيها مئات من ورش صناعة الأثاث والحلويات ومنتجات الألبان، لا يملك أهلها البسطاء متنفسا على نهر النيل، فشاطئ النهر الطويل استولت عليه أندية الصفوة، ومجرى النهر الضيق استولت عليه مزارع سمك يعيش على النفايات فأصبح ضارا بالإنسان والنهر، انه سمك لا يعرف العوم، وماء النهر الكسول اختلط بمياه صرف صحى تلقيها البيوت المتاخمة للشاطئ، هكذا امتلكت دمياط شاطئا نهريا فقيرا ملوثا نفاذ الرائحة، يعبرون النهر إلى محطة القطار فوق كوبرى ضيق من المعدن لا يزيد طوله عن مئة متر تم بناؤه فى أوائل القرن الماضى.

اسمع يا صديقى، رأيت فى معظم الدمايطة صناع وحرفيون يعيشون وفقا لنظام قاسى من العمل المنتج، ساعات طويلة يقضونها فى الورش الصغيرة تحكمهم ثقافة عمال المصانع قاصدين الكسب من الإنتاج والتجارة، ونتيجة لذلك أصبح متصورا لدى أمثالى ممن يعيشون على ثقافة الزراعة أن يصدقوا ملح ونوادر تشاع عن الدمايطة، حين يلاقوك ( تشرب شاى وإلا إنت مش كيُيف) وحين يستضيفونك ( تحب تتعشى وإلا تنام خفيف).

وصلنا مدينة دمياط ظهرا، وفى أول مقهى بالميدان الكبير ألقينا جثثنا على كراسى مريحة وطلبنا اثنين شاى، فجأة واجهتنا لافتة سوداء علقت على البناية المقابلة ( لا لمصنع السموم) ولافته أخرى ( نريد حياة أفضل لأطفالنا)، وثالثة (بالروح والدم نفديك يا دمياط) ، وحين بانت ملامحنا الغريبة عن المكان، لعله إجهادنا أو تكاسلنا أو لوحة أرقام سيارتنا أو تساؤلنا عن اللوحات، هى دقائق قليلة مرت علينا حتى اقبل علينا رجل هاش باش فى الأربعينات من عمره، رحب بنا وقدم لنا نفسه بأنه صاحب المقهى، ثم قال:

- أهلا بالضيوف شرفتونا، إحنا دمايطة صحيح، يعنى الشاى على حسابنا، فابتسمنا نلاطفه وجاوبناه:
- ربنا يكرمك، قل لنا الحكاية يا كريم، فجلس بجوارنا وأخبرنا:
هذه اللافتات ومئات مثلها منتشرة فى منطقة دمياط وضواحيها حتى مدينة رأس البر، الحكاية إن فيه ناس أكل العمى قلوبهم، من أجل مصالحهم الشخصية يحاولون بناء مصنع لسماد الأمونيا الملوث للبيئة والضار بصحة الناس، واختاروا أجمل موقع فى بلدنا على جزيرة رأس البر، هذا المصنع وأمثاله لا يقيمه الأوربيون أو الكنديون أو الأمريكان فى بلادهم لأنهم يعرفون أضراره على الصحة والبيئة، نحن فى نظرهم الحيطة المائلة يركبوها ببعض الأساليب الملتوية وغير الشريفة، إنهم يريدون أن يكسبوا بلايين على حساب صحتنا وعلى حساب أولادنا، مصنع سماد الأمونيا لو قام هنا فانه سيضر بحياة ومصالح مليون شخص ويقتل أكثر من ثلاثة مليون شجرة مثمرة من النخيل والفواكه، ولا يحقق فرص عمل لأكثر من مائتين وخمسين فردا فقط، يعنى عدد عماله لا يزيدون عن عدد عمال مصنعين أو ثلاثة لصناعة الحلويات، إحنا فى دمياط عاوزين الناس تشتغل وتكسب بالحلال والأصول، ويمكن إنشاء المصنع فى منطقة ثانية بدون ضرر لأحد.

كان الرجل صاحب قضية متحمس، يؤكد لنا أنه واحد من عشرات آلاف الرافضين لإنشاء المصنع، وحين تعاطفنا مع موقفه النبيل طلب لنا مزيدا من المشروبات وأقسم على أن مشروباتنا مجانية وأصر على أن يصطحبنا مودعا إلى باب السيارة.

تركنا مقهى الرافض الأول لنجد أمامنا عربة كارو تحمل بعض الكراسى الخشبية يجرها حصان يسير برشاقة وضع صاحبه ( الرافض الثانى) على رأسه لافته صغيرة من ورق مقوى تقول ( لا للسموم)، ومر أمامنا شاب صغير (الرافض الثالث) يركب دراجة هوائية وفق رأسه لافته كتب عليها (حفاظا على أطفالنا)، وتتابعت أمامنا صور الرافضين.

عبرنا نهر النيل على كوبرى واسع من المعدن، فرأينا اختفاء مزارع الأسماك داخل النهر وقرأنا لافتة كبيرة ( إحنا الدمايطة اللى نقلنا الكوبري) وتعددت اللافتات تحمل عبارات الافتخار بنقل بقايا الكوبرى القديم ووضعه على شاطئ النيل أمام مكتبة عامه رائعة ليجتمع الكبرى والمكتبة فى شكل حضارى يستمتع به سكان المدينة.

هكذا أصبحت مدينة دمياط أكثر نظافة واتساعا، يصافح وجهها نهر النيل بكورنيش جميل رائع وبمياه نظيفة خالية من بقايا مزارع الأسماك ومياه الصرف الصحى.

على مقربة من وقت العصر، خفت الشمس وتمايلت سيارتنا على طريق زراعى لمسافة عشرة كيلومترات حوله أشجار وارفة وزراعات مثمرة وبينها عشرات من لافتات المقاومة المدنية، ( بالروح بالدم نفديك يا دمياط )، (لا للفساد، لا للتلوث)، ( نحن ننقذ أطفالنا )، واستمرت اللافتات تقابلنا حتى دخلنا جزيرة رأس البر وانطلقنا إلى طرفها الشمالى حيث تقع مدينه رأس البر، وعلى لسان راس البر عند ملتقى النيل والبحر بدأ نسيم البحر يلاطفنا فى أيام صيف رائعة والتقينا بثلاثة من الأصدقاء شاركناهم الجلوس على مقاعد خشبية رصت على أرض من أحجار الجرانيت الملون، قلنا لهم:

- المكان هنا رائع ذو تصميم حضارى، لابد انه تكلف كثيرا، فرد علينا أحدهم قائلا:

- هذا المكان الجميل مشروع تجارى أقامته المحافظة وتكلف ثلاثة مليون جنيه لم تدفع الحكومة منه مليما واحدا، تتبعه بعض المحلات السياحية تم تأجيرها بحوالى اثنى عشر مليون جنيه، هكذا أصبح لدينا تسعة ملايين جنيه إيراد صافى تستخدمه المحافظة فى إنشاء خدمات حضارية للمواطنين فى باقى قرى ومدن المحافظة، خدمات خاضعة بالكامل للرقابة الشعبية.

وقال الثانى:

- هذا جمال بلدنا ورثناه عن جدودنا ونحاول أن نضيف إليه، ومع ذلك تحاول شركة أجريوم الكندية وشركائها فى مصر إنشاء مصنع للسماد ينتج فى منطقتنا خليطا من الفساد والنشادر والأمونيا والصرف الصناعى قاصدين القضاء على هذه الجزيرة الجميلة والإضرار بحق أولادنا فى الحياة فى بيئة نظيفة.

وحين سألنا الأصدقاء الثلاثة من الذى ينظم هذه المقاومة الشعبية الرائعة ضد التلوث؟ أجاب الثالث:

- كلنا دمايطة، نجود على أنفسنا بكل ما نستطيع وإنا لفاعلون.

كانت مسحة التعاطف بينهم وانشغالهم بالهم العام لمدينتهم سببا كافيا لنطرح عليهم سؤالا حيويا ذو شقين، ماذا سيحدث لو أن القيادات الكبيرة المتعاطفة معكم تخلت عنكم ؟ وما هى آلياتكم الاستمرار فى مقاومتكم؟، أجابوا فيما يمثل رأيا واحدا:

- بعيدا عن وجود أشخاص بعينها، تكون الغلبة لمن هم أكثر تنظيما وامتلاكا لآلية الاستمرار، نحن واثقون من جدوى أسلوبنا الحالى، وبالتأكيد سنغير أدواتنا حين تتغير الظروف.

مع اصفرار الشمس وعلى بعد لا يزيد عن خمسة كيلومترات من قلب مدينة رأس البر مررنا على الأرض المزمع قيام المصنع عليها غرب الجزيرة، فرأينا الخراب قادم لا محالة إذا نجح التدليس ومشاريع العولمة الجهنمية فى إقامة مصانع للتلوث فى هذه المنطقة.

فى المساء حملنا بعضا من حلاوة دمياط هدية لأهلنا فى القاهرة، لنقص على الجميع صورة انتفاضة شعبية رائعة لدمايطة جدد تؤكد أن العمل الشعبى المنظم قادر على صناعة قرارات مصيرية لشعب رائع.

Tuesday, November 04, 2008

لصوص فى التعليم

مؤسسات التعليم الخاصة فى بلادنا تحكمها قوانين اجتماعية وأخلاقية معلنة ومخفية، القوانين الغير معلنة هى الأكثر تأثيرا، والعمل بها أمر ميسور لمن كانت به خصاصة وعلى المحتاج أن ينضم إلى قائمة من أساتذة ذات مصالح مشتركة, لهم سماسرة فى القرى والبيوت ودور العبادة ومكاتب الوزارات، أحدهم يقوم بتدريس مقررات نصف تدريس، وآخر يؤلف كتبا ربع تأليف، وثالث يبيع الكتب المقررة بأكثر من ثمن البيع، وعلى الباقين أن يسهلوا عملية الامتحانات والغش والتصحيح وإظهار النتائج الباهرة، ويقتسمون الغنيمة.

أولادنا يتعرضون للصوصية واحتقان فكرى وأخلاقى على أيدى أناس مشكوك فى قدراتهم العلمية والأخلاقية، أحدهم دبلوم زراعة يملك ويدير معهدا علميا، وأخر حصل بجهد جهيد على دبلوم صنايع واشترى بسهولة شهادة دكتوراه مضروبة من دولة شرقية وأصبح يملك أكاديمية وجامعة خاصة، وثالث أقام مبنى فخم جدا على مساحة ضيقة جدا دون معامل ودون ملاعب، مبنى لا يصلح لغير بيع السيراميك والأدوات الصحية، ومع ذلك أصبح المبنى أكاديمية، هكذا دون قدرة علمية أو وازع أخلاقى ينتشر النصابون فى بلادنا، يتاجرون بالعلم ويصنعون فسادا ويهدمون كثيرا من القيم.

ذات مره سألت أحد المديرين فى معهد خاص عن وقائع فساد التعليم فى المعاهد الخاصة، فأقسم بالطلاق انه رجل طيب يقوم بخدمة جليلة للمجتمع وللحكومة، يحبس أجساد طلاب ضعاف علميا واجتماعيا فى معهده، ويجمع أموالا من أولياء أمور منافقون، فينشغل الطلاب ويستريح الآباء، هكذا يعبر الطلاب سنوات المراهقة وفورة الشباب فى معهده، يعاقرون نجاحا ورسوبا وجلوسا على المقاهى المجاورة، وفى النهاية يحصلون على شهادات مضروبة تدليسا، يواجهون الحياة بشباب واهن وعقول ضعيفة، تتلقاهم طوابير البطالة والزواج والعيش على الهامش، سواء أكانت الطوابير هنا فى دولة القعاد أو فى طوابير العيش عبيدا هناك فى دول الغربة، هكذا يتم ترويض أعداد هائلة من الشباب فلا يسببون ألما ثقافيا لأولياء أمورهم ولا يسببون صداعا سياسيا للحكومة.

إن الربح القاتل، ماديا أو اجتماعيا، يجمعه أصحاب مؤسسات التعليم الخاص سببه أولياء أمور متخلفون ثقافيا، يدفعون بطلاب علم ضعاف اجتماعيا إلى مؤسسات ترعاها دولة رخوة سياسيا تضع العملية التعليمية فى أيدى جماعة من أساتذة شطار ولصوص.

Sunday, November 02, 2008

العدد فى السكان

أدبيات أجهزة إعلامنا الحكومية ترى أن زيادة عدد السكان فى مصر تأكل فرص النمو الاقتصادى المتاحة، وتؤدى إلى دوران مجتمعنا فى حلقة فقر حلزونية تضيق وتضيق حتى نستجدى المعونات على أبواب بعض الأصدقاء وكثير من الأعداء، إنها أدبيات لا ترى الزيادة السكانية حقيقة موضوعية يمكن التعامل معها سلبا وإيجابا حسب طبيعة الفلسفة السائدة فى المجتمع ومدى رغبة الحكومة فى التقدم.

فى الدول المتخلفة تتناول أدبيات الإعلام حقيقة الزيادة السكانية من طرفا السلبى باعتبارها زيادة من أفواه جديدة تطلب المزيد من الطعام والشراب، يفتح جوعها على القيادات أبوابا من جحيم المشاكل، هذه الأدبيات تؤيدها وجهة نظر فلسفية تشاؤمية طرحها بعض مفكرى القرن الثامن عشر فى أوربا، حين اعتبروا الإنسان مجرد حيوان يعيش ليأكل فقط، وتناسوا قدرة الإنسان على ابتداع علم وتكنولوجيا ترفع من كفاءة إنتاجه الاقتصادى بمعدلات تجاوز قدرته على التناسل، هكذا إعلامنا الرسمى يعتبر المصريين مجرد أجساد تعيش لتأكل ما يلقى لها من فضل حكومتنا الرشيدة، مثل هذا الطرح للمشكلة السكانية يترك الفرصة سانحة لضروب مختلفة من الفساد الفكرى والاقتصادى وبالتالى لضروب من التخلف الاجتماعى.

فى الدول المتقدمة تتناول أدبيات الإعلام حقيقة الزيادة السكانية من طرفها الايجابى باعتبارها زيادة فى عدد الأجساد تحمل معها زيادة فى عدد القلوب والعقول، وأن الأفواه الجديدة أفواه بشرية مهمتها أن تأكل لتعيش فى ثقافة وتحضر، هكذا تعاملهم حكوماتهم باعتبارهم مجال استثمار بشرى يؤتى أكله بعد حين، هذه الأدبيات تساندها فلسفة ترى الإنسان مشروع وجود قادر بالتعليم والتدريب والانتماء على أن تتضاعف قدراته الإنتاجية فى كل الميادين، هكذا تعمل معظم الدول المتقدمة على زيادة عدد السكان لديها.

إن المتخصصين فى علم السكان يرصدون ظاهرة الزيادة السكانية فى شكل هرم من فئات العمر المختلفة، وهرمنا السكانى فى مصر قريب من ثمرة الكمثرى، رأسها صغير من قلة أعداد الكبار والشيوخ، وقاعدتها عريضة مليئة بالشباب والأطفال، ويحسن بالحكومات المصرية أن تتوجه إلى قاعدة الكمثرى بالتعليم الجيد والحرية الفكرية والديمقراطية السياسة، ولو فعلت سيكون لدينا التفاؤل الموضوعى بأن مجتمعنا مقبل على صحة نفسية وجسدية واقتصادية ترفع مكانته بين الشعوب المتحضرة.