Tuesday, July 27, 2010

منهج التقدم


يخضع أفراد المجتمع الإنسانى لقوانين اجتماعية واقتصادية تتحكم فى ترويج مناهج فكر بعينها، مناهج تتحكم فى آليات معرفتهم للظواهر وطرق استيعابهم لوقائع الحضارة، وعليه فإن رصد المنهج الفكرى السائد فى المجتمع يبين مدى انحياز صُنًاع القرار لمصالح هذا المجتمع.

طوال التاريخ المرصود للبشر، يتنازع الناس منهجان فكريان متعارضان فى معرفة الظواهر، منهج شخصى يبرز من كون الفرد متضخمة ذاته ويرى نفسه محور الكون، والمنهج الآخر موضوعى ينشا من تعامل البشر مع الظواهر المحيطة باعتبارها وجودا حيا ومتشابكا يؤثر فى بعضه البعض، فحين يسود المنهج الشخصى، ينتفى دور العلم فى دراسة الظواهر، ويفسّر الفرد والمجتمع وجود الأشياء بناء على أراء شخصية، ويرسخ لدى عامة الناس، أن من يترفعون بالسّلطة ويمارسون القهر، هم وحدهم القادرون على امتلاك أسباب المعرفة، هكذا تنتشر مظاهر التخلّف الحضارى، من خوف عام واندثار الانتماء، ويصبح البناء الثقافى للمجتمع هشيم من أحداث غير مترابطة منطقيا، يصف طبيعتها هوى الأقوياء وأمانّى الضعفاء.

حين يسود منهج الفكر الموضوعى بين الغالبية المجتمعية، تقل فاعلية الآراء الشخصية فى دراسة الظواهر، ويدرك الناس أن ظواهر الكون يحكمها قانون العلّة والمعلول، وتنتشر مظاهر التقدم الحضارى للمجتمع، بان تسود روح التّجريب وحرية الرأى، ويتكون البناء الثقافى من نظام فكرى يسمح بالاستدلال على وجود مجموعات لأحداث مترابطة منطقيا، أحداث يمكن قياس بشكل محايد وبالتالى يمكن توقّع نتائجها.

ومثالا على ذلك فإن استخدام المنهج الشخصى فى دراسة الحضارة الفرعونية، يؤدى إلى تصور ذاتى يوحى بأنها حضارة صنعتها مخلوقات قادمة من الفضاء، أو أنشأتها عماليق خسفت بهم الأرض، ولا يكون من سبيل أمام لتقدمنا باعتبارنا أحفادا للفراعنة، غير الأمنيات وحمل التعاويذ، كى تصبّ السماء علينا من فضلها، ويكون الضّعف والتّمسح بتاريخنا، أعمدة فى بنائنا النفسى، فنقبل معونات الآخرين مصحوبة بأفكارهم، ويبقى ذلّ شعبنا دليلٌ حَمٌد لأصحاب النّعم.

وعلى الطرف الآخر فإن استخدام المنهج الموضوعى فى دراسة الحضارة الفرعونية، يؤدى إلى يقين علمى، بأنها حضارة أنتجها جهد إنسانى حقيقى، قام به أجدادنا الذين عاشوا بالفعل على هذه الأرض، ويكون شرف انتمائنا لهؤلاء الأجداد، سببا يحفزنا لاستعادة دورنا فى تقدم الإنسانية، فنسعى لإنشاء نموذج حضارى حديث، يكرّس لحرية الإبداع بين المواطنين.

هكذا، تفرض آليات التقدم الحضارى على صنّاع القرار فى بلادنا أن يعتمدوا فى صنع قراراتهم على مناهج بحث موضوعية تدعم الوسائل الفاعلة للانتماء الايجابى والمواطنة الصالحة.

المقال نشر فى جريدة نهضة مصر- الثلاثاء 27 يوليو 2010م

Monday, July 26, 2010

إدانة انتـخابية


مثل الكثير جدا من المصريين، لا أملك بطاقة انتخابية للإدلاء بصوتى، فلا أجد مبررا كافيا للانضمام للحياة الحزبية، ولا أتحمل الانضمام لأعداد غفيرة من كذابين الزفة يلهثون وراء نقود المرشحين، وأملك حججا كثيرة للهروب من العمل السياسى أفضل من حجة الإدلاء بصوتى الانتخابى، فلدى معارك حياتية شتى، إنها الخبز والسكن والصحة والتعليم والتواصل الإنسانى.

أنا لا أملك بطاقة انتخابية، ولم أفكر فى امتلاك واحدة طوال الأربعين عاما الماضية، فقد عودنى الكبار والصغار أن صوتى الانتخابى لا قيمة له، فالقوانين والقرارات فوقية جاهزة، والمرشحون معينون سلفا، شفت ذلك طوال عمرى فى البيت والمدرسة وفى الجامعة وفى الشغل، وفى كل يوم أتدرب مثل ملايين المصريين على تجرع الأسى ويمارس قلبى الحزن الجليل، فثروات بلادى محجوبة عنى، ولا أملك تجاه رفع البلاء غير الرجاء والدعاء.

أنا لا املك بطاقة انتخابية، ولا أفكر فى امتلاك واحدة طوال الثلاثين سنة القادمة، حتى وان هددونى بالحبس والغرامة، فلم أعد اخشى العقوبة من قانون يسمح فى بلدى لحاملى الجنسيات المزدوجة أن يتسللوا بالأموال والعلاقات التحتية وسوء الانتخابات، بالدخول أعضاء فى مجالسنا النيابية ويتولون التشريع والرقابة، لا يقيمون وزنا لملايين من أصواتنا الرافضة والمكتومة.

الناس أحرار فيما يختارون من جنسيات دول ينتمون إليها، لكنهم ليسوا أحرارا فى التجارة بهذه الجنسيات بحجة أنهم يطلبون النجاة لأنفسهم، فمعظم الدول تعطى جنسيتها لمن ترى فيه قدرة على ذوبان شخصيته فى شخصية أبنائها، وبالتالى يحكمه الولاء لها ولمؤسساتها، هكذا تجتمع للأفراد شروط عقلية وأخلاقية، تتلخص فى أن صاحب الجنسيتين هو بالضرورة شخص يتاجر فى الانتماء، فلمن يكون ولاء التاجر المصرى الذى يقضى سنوات فى دولة أجنبية ثم يعود لنا حاملا جنسيتها، ليدخل مجلس الشعب ثم يشرع القوانين لكل المصريين؟ فإذا كنا لا نسمح لغير المصريين الخلّص بالخدمة فى القوات المسلحة، فكيف نسمح لمزدوجي الجنسية أن يدخلوا مجالسنا النيابية ليشرعوا لنا القوانين؟ وكيف نسمح لبعضهم أن يتولى مناصب حكومية رفيعة تسهر على تنفيذ تلك القوانين؟ قد تكون الإجابة مطمئنة، إنها مجرد إدانة انتخابية فالأمور فى مصر بيد أبنائها المخلصين، وقد تكون الإجابة قاتلة، بأننا نمهد الطريق لإعلان أن مصر ولاية تابعة لدولة أجنبية.

Wednesday, July 21, 2010

الصياح بالتغيير


يرى بعض المراقبين السياسيين أن مصر إناء كبير يضج بغليان ثورة شعبية وشيكة، حجتهم فى ذلك تعاظم ثلاثة عوامل رئيسة فى صنع التغيير، إنها فقر الأداء السياسى والجوع الاقتصادى وتآكل المواطنة، لكن القراءة الموضوعية للواقع المصرى تصل بنا إلى نتائج مغايرة تجعل فعل التغيير مقصور على الصياح وأن التغيير صعب.

فى مقابل الجوع الاقتصادى يوجد نسيج اجتماعى غير متجانس لا يقوى على التمازج، فالطبقات الاقتصادية المصرية غير متواصلة اجتماعيا، ففى مصر طبقة ثرية مرفهة يقل حجمها عن عشرة المائة من السكان، وطبقة عريضة تصل إلى أربعين فى المائة من السكان تعيش دون خط الفقر الاقتصادى، وطبقة تزيد عن نصف السكان تعيش حول خط الفقر الثقافى، هذا الوضع الطبقى الاقتصادى الاجتماعى السيئ جعل المصريين يعيشون أنيميا ثقافية وفكرية حادة، وجعل من مصر كائنا مخترقا مفتوحا لتجارب الآخرين.

فى مقابل فقر الأداء السياسى، تحمل غالبية النخب المصرية شتاتا فكريا وثقافيا هزيلا غير مصري الجذور لا يتصارع حضاريا مع الواقع ويتكلس داخل أطر مغلقة تحول دون الفعل السياسى الجاد، وتعوق ظهور منظمات المجتمع المدنى الفاعلة.

فى مقابل تآكل قضية المواطنة، تتصارع آليات الانتماء بين أصحاب حزم فكرية ودينية متناقضة، ففى الداخل ونتيجة احتكار الدولة لآليات الفعل السياسى، تعيش الجماهير وعيا سياسيا منقوصا، ومن الخارج تتطاير أفكار متناقضة بين أقباط مهجر يضيقون الخناق على أهل مصر ليعيشوا فى تاريخ مضى، وبين إخوان بترول يلغون وجود مصر فى تاريخ معاصر، وبين عبيد تدميهم أسلاك النخاسة والكفالة فلا يهتمون بغير تاريخ أسيادهم، هذه الحزم الفكرية يعانى أصحابها من هوانهم على الناس خارج مصر ويسعون لاسترداد قوتهم داخل مصر، يتنابذون بالأقوال ويتشدقون بنقاء العنصر والانتماء العرقى، وتتسع شقة عدم الانتماء.

نحن غلابة، ففى بحثنا عن منهج فكرى للتقدم، يشقينا فعل أناس لهم سطوة وانتشار يدعون أنهم وحدهم المندوبون عن السماء وأنهم وحدهم الناطقون بالحق، أنهم يمارسون التمييز بين أبناء الوطن الواحد، فهذا مؤمن لهم وذلك كافر بهم، المؤمن لهم نصف مقدس والكافر بهم مشروع قربان للآلهة، إنهم لا يعترفون بحق الإنسان فى المواطنة ويشترون بآيات الحكمة ثمنا قليلا، إنهم لا يرون أن السماء فوق الجميع وأن الأرض ملك للجميع.

نحن المصريون، نعانى تخلفا اقتصاديا وعلميا وثقافيا وضعفا سياسيا، جموعنا عمال تراحيل تسكن العشوائيات، تشقينا فعله الحصول على طعام اليوم وتحولت ثقافة التغيير لدينا من فعل الثورة إلى فعل الصياح.
المقال نشر فى جريدة نهضة مصر - الثلاثاء 20 يوليو 2010م

Tuesday, July 06, 2010

مٌسجًل خطر


فى هوجة اشتباه فى تجارة الممنوع تم القبض على (قرنى) وتبين انه ماسح أحذية يتفاوض على عقد عمل فى الخارج، وفى حادثة قطع طريق عام تم القبض على (هشام) وتبين انه قد سجن فى قضايا احتيال على موظفين ونشل مدير عام وقطع طريق مهجور، وفى حادثة زراعة مخدرات تم القبض على (دلال) وتبين أنها ابنة تاجر مخدرات وحبست فى قضايا مخدرات، وقضى (عتريس) خمسين يوما فى الحبس حتى تم القبض على رجل آخر تشتبه الشرطة فى انه القاتل الوحيد لحصان رجل عظيم.

فى بعض المواسم تقعقع أدوات الشرطة فى تطهير منطقة من الخارجين على القانون، تفتش الأرض والمنازل والجيوب، ويتم القبض على العشرات من المشتبه فيهم، وتقيد بياناتهم فى السجلات، وحين تهدأ المعمعة وتصبح الأمور تحت السيطرة، يطلق سراح بعض المحبوسين، ويبقون تحت إمرة طلب جديد أو تسوية جرائم لم يستدل أحد على مرتكبيها.

عشرات من القضايا تقوم فيها الشرطة بالقبض على جناة ومشتبه فيهم، ومن باب استعراض الكفاءة تعلن الشرطة سابق معرفتها بالجناة وبتاريخهم الإجرامى، وتحفظ ذاكرة الناس أن الشرطة تعرف الكثير وأنها تقدر على الأكثر، وحين يتكرر القبض على نفس المشتبه فيهم فى نفس القضايا، يحتار الناس فى تفسير بقاء كثير من المجرمين يروعون الآمنين ويعيثون فى الأرض فسادا، دون أن يأخذهم القانون بيد الشرطة، عندئذ يفسر البسطاء أن إغماض عين السلطة على نشاط كثير من المجرمين، راجع لأن يد السلطة تتحرك لتنفيذ حالات موسمية أو لقضاء مصالح فردية، ويتربى شعور لدى الناس بأن الأمور غير منضبطة، ويحاصرهم إحساس بأنهم مشاريع جاهزة لحالات اشتباه موضوعة تحت الطلب، ذلك بأن إغماض الأعين عن الأجرام أمر صالح للمساومة فى تصفية الحسابات الشخصية.

كل منا يعرف جناة ويعاشر خارجين على القانون من كل نوع، زوجات وموظفين وتجار وفنانين وطلاب علم، لكن الخوف من سطوة الجناة ونوم القانون وفساد الذمم، وما يمليه ضعفنا الإنسانى بأننا فى وقت ما، جناة من نوع ما، وتعثرنا الإنسانى فى تناول قضايا الحرية، يجعل السلطة ترانا صالحين للاستخدام فى مواسم القبض على جناة، كل ذلك الخوف يدفع الكثيرين منا لأن يتحسس فى كل وقت سكينا أو عصا، يهش بها خوفه من البلطجة وفقدان الشعور بالعدالة والأمن.

علاج خوفنا العام من تسرب العدالة يتطلب إدارة علمية ترفع كفاءة الشرطة والقضاء والسجون، وتضمن الفصل بين الجناة والأبرياء وأصحاب الحقوق.

المقال نشر فى جريدة نهضة مصر – الثلاثاء 6 يوليو 2010م